أهمية معركة الموصل وخطورتها والتجاذبات حولها…
العميد د. أمين محمد حطيط
عندما قرّرت أميركا دمج الميدانين العراقي والسوري في العام 2014 إثر طيّ صفحة التهديد بالعدوان العسكري الأميركي المباشر على سورية عبر تسوية ملف الكيماوي الشهيرة، أوعزت بالتنفيذ، الى داعش الفصيل الإرهابي الذي تعتمد عليه، وسخرت له منظومة إعلامية ترويعية من أجل ضرب معنويات السوريين والعراقيين وجعلهم يسلّمون مدنهم وقراهم له ومن غير مواجهة بطلقة واحدة. فالحرب النفسية والترويع والترهيب من داعش كانت ولا زالت أساساً في الخطة الأميركية. ففي السابق حذّرت أميركا من إقدام داعش على استعمال الأسلحة النووية التكتيكية واليوم وفي السياق نفسه تحذر من استعماله الأسلحة الكيماوية في الموصل وأمكنة أخرى.
وفي الواقع نجحت الخطة الأميركية في البدء في تمكين داعش من وضع اليد على الرقة السورية، ومنها الى الموصل بشكل أسطوري، ثم اندفع نحو الحدود الإيرانية العراقية شرقاً في تدحرج خيالي كاد معه العالم يصدق بأنّ مسلحي داعش يملكون القوة الخارقة التي لا مثيل لها في العالم، وإلا كيف يمكن التصديق بأنّ مجموعة بدائية التنظيم والتسليح لا يتعدّى حجمها 20 ألف مسلح، تمكّنت من احتلال نصف العراق وثلث سورية في مواجهة قوى تتعدّى في سورية أكثر من 250 عسكري وفي العراق أكثر من ذلك أيضاً؟
ومباشرة طبعاً جاء الاستثمار الأميركي المحضّر له سلفاً، اذ ما إن استتبّ الأمر لداعش في الرقة أولاً وفي الموصل ثانياً وتمّ تهديد بغداد في العراق، حتى أعلنت أميركا أنها أنشأت تحالفاً دولياً للعمل ضدّ داعش في العراق في مرحلة أولى ثم في سورية في مرحلة ثانية، في موقف خُدع به البسطاء السذج في السياسة والاستراتيجية، ولكنه لم ينطل على المواكبين للعدوان الأميركي على المنطقة العارفين بخلفياته وأهدافه، اذ ومن اليوم الأول كنا ولا زلنا نرى ونؤكد أنّ داعش لا يعدو كونه جيشاً إرهابياً سرياً بيد المخابرات الأميركية استعملته اميركا في العام 2014 كمفارز سبّاقة لتحضّر لها عودتها العسكرية الى العراق، ومنه لتتسلل لاحتلال سورية بعد ان فشلت في العام 2011 من البقاء في العراق بشروطها الاحتلالية، فقرّرت أن تعود من باب إرهابي ضاغط كباب داعش.
لكن الميدان العراقي كما بات واضحاً، لم يأت مطابقاً للحسابات الأميركية، فكان الموقف التاريخي والبطولي الشجاع للمرجعية الدينية في العراق، والذي على أساسه شكل الحشد الشعبي العراقي للدفاع عن الوطن وإفشال الاحتلال الأميركي الجديد له والمقنع بداعش. وبالفعل خاض الحشد الشعبي معارك رائعة تمكن خلالها من دفع الخطر عن العاصمة ومثلث الثقل الحيوي الأوسط المتشكل من بغداد والنجف وكربلاء، وفرض على داعش ابتعاداً عن الحدود الإيرانية، ثم تابع تحرير مناطق واسعة في الأنبار ذات الثقل السني، ومكّن الجيش العراقي من أن يعود بفعالية الى مسرح العمليات ويؤهّله لتسلم أسلحة جديدة من غير السوق الأميركية التي امتنعت عن تنفيذ العقود الموقعة معه قبل سنوات.
نجح العراق في الهجوم المعاكس، الى حدّ بات القول معه انّ خطة أميركا بالاحتلال غير المباشر قد بلغت الفشل، رغم كلّ محاولاتها مع التحالف الدولي الذي ترعاه لفرضه والتي تجلت خاصة في سعيها للحدّ من عمليات الحشد الشعبي ومنعه من متابعة التطهير، بالإضافة الى تقديم الدعم الميداني العملاني واللوجستي لداعش والدعم المالي لها والترويج الإعلامي لجرائمها والضغط على المكوّن السني العراقي حتى يرفض دخول الحشد الشعبي الى مناطقه، باعتباره حسب التوصيف الأميركي شيعي التكوين والأهداف والهوى. رغم كلّ هذه المحاولات حقق العراق بشعبه وجيشه وحشده الشعبي الإنجازات الميدانية الهامة التي تنبئ بالقول إنّ مصير داعش في العراق بات محتوم النهاية، وان الجزيرة المتبقية له فيه والتي تتمثل بمدينة الموصل لا بدّ أنها ستطهر قريباً.
من هنا تبدو أهمية مطلقة لمدينة الموصل ولمعركة تحريرها. اذ انّ مصير الموصل وطريقة التعامل معها يحدّد مصير داعش والإرهاب في العراق. ولذلك نجد أنّ الحكومة العراقية وبدعم من أكثرية الشعب العراقي تريد أن تحرّر الموصل على الطريقة التي حرّرت بها المناطق العراقية الأخرى بتطهيرها كلياً من الإرهاب ووضعها كلياً تحت سيطرة الدولة بقواها الشرعية، بما فيها الجيش والحشد الشعبي، باعتبار هذا الحشد منظومة شبه عسكرية ترعاها الدولة وترتبط برئيس الحكومة الذي هو القائد العام للقوات المسلحة العراقية.
إنّ أهمية معركة تحرير الموصل تنبع من التنافر في المصالح والأهداف التي يرمي اليها الأطراف المعنيون بالمدينة ومصيرها، وهنا يمكن تبيّن اتجاهين مختلفين حول المسألة الاتجاه الأميركي والاتجاه العراقي.
ففي الموقف العراقي نجد انّ لدى الحكومة العراقية نية وقراراً باستعادة الموصل باعتبارها مدينة عراقية وانّ تحريرها واجب الحكومة والشعب، وبالتالي فإنّ كلّ مكونات القوى العسكرية العراقية بما فيها الجيش والحشد الشعبي مسؤولة عن ذلك، بدعم من الشعب العراقي الذي يريد استعادة الأمن والاستقرار الى ربوعه. وإنّ التحرير هنا يعني طرد داعش واجتثاثها كلياً من الموصل وعدم السماح لأيّ جهة أجنبية او محلية لا تخضع للدولة بالوجود المسلح في الموصل.
أما في الموقف الأميركي، فإنّ معركة الموصل ضدّ داعش لن تكون معركة بالمعنى الحقيقي للكلمة او للمصطلح، بل ستكون أسوة بما جرى في جرابلس السورية بمثابة عملية تسليم وتسلّم بين داعش الخاضعة في العمق لأميركا وبين قوى عسكرية أخرى نظامية أو غير نظامية خاضعة أيضاً لأميركا، ولهذا ترفض اميركا إشراك الحشد الشعبي في المعركة، لأنه لا يأتمر بأمرها، وتعوّل على مشاركة تركية وكردية فاعلة، بالإضافة الى دور محدود للجيش العراقي في المعركة، حتى إذا خرجت داعش إثر عملية التسليم والتسلّم تحوّلت الموصل الى قاعدة أميركية تبتز بها الدولة العراقية.
إنّ أميركا تريد من معركة الموصل تحقيق مكاسب آنية تتصل بالانتخابات لديها وأهداف استراتيجية تتصل بأهداف العدوان الأصلية. ولهذا فهي تخطط لهذه المعركة لإنجازها في الفترة ما بين منتصف تشرين الأول/ أكتوبر منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر لتجعلها ورقة في صندوق الانتخابات الرئاسية الأميركية المقرّر إجراؤها في 8 تشرين الثاني المقبل فيستثمرها الديمقراطيون، ثم أنها تريد المحافظة على داعش سالمة ونقلها من الموصل الى مناطق أخرى لاستعمالها لخدمة مصالحها وقد تكون الوجهة الأولى دير الزور والرقة السوريتين، ثم إنها تريد الإمساك بقرار الموصل، كما ذكرنا.
إننا نرى أنّ السير بإحدى الخطتين الأميركية أو العراقية سيحدّد اتجاه ومصير والعراق ووحدته وطبيعة الأمن فيه، فإن رجحت الوجهة العراقية كانت وحدة العراق وأمنه هي الراجحة، والعكس هو الصحيح إن استطاعت أميركا فرض وجهتها. ومن هنا نفهم كيف أنّ رئيس الحكومة العراقي يستنكف عن تحديد تاريخ لإطلاق معركة تحرير الموصل مشترطاً استكمال جهوزية القوى التي تمكّنه من تحقيق ما يريد العراق، بينما نجد أردوغان التركي يحدّد منتصف تشرين الأول/ أكتوبر موعداً لها تماهياً مع الخطة الأميركية.
وفي توصيف إجمالي نقول إنّ معركة تحرير الموصل وطريقة تحريرها ستؤشر الى مصير الخطة الأميركية بدمج الميدانين العراقي والسوري، وتالياً مصير الوجود الأميركي في العراق، ومستقبل العراق وشكله، ومصير الخطة الأميركية لتقسيم العراق. وهي من هذه الناحية تطابق في أهميتها مسألة حلب التي تنظر اليها أميركا بأنها مدخل لتقسيم سورية في حين يتعامل معها معسكر الدفاع عن سورية بأنه خط الدفاع الرئيسي عن وحدة سورية. ولهذا نقول إنّ مصير المنطقة ومصير العدوان عليها يحدّد اليوم في حلب والموصل.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية