معركتا الموصل وحلب ونتائج غير مستحّبة على المدنيين في ظلّ حتمية ملاحقة الإرهابيين
ميشيل حنا الحاج
معركة تحرير الموصل آتية لا محالة بعد أيام قليلة. ويردّد ذلك حيدر العبادي رئيس وزراء العراق. وقبله، أكده أشتون كارتر، وزير الدفاع الأميركي، اثر انفضاض مؤتمر عقد قبل شهر تقريباً وضمّ ثلاثين من وزراء خارجية ودفاع دول التحالف الأميركي ضدّ الإرهاب، إذ أعلن صراحة أنّ الاستعدادات لتحرير الموصل والرقة قد اكتملت الآن.
ومؤخراً بادر الجنرال جوزيف دانفورد، رئيس هيئة أركان القوات الأميركية المشتركة، لتأكيد اكتمال الاستعدادات لتحرير الموصل، قائلاً بأنّ عملية التحرير ستبدأ في شهر تشرين الأول أكتوبر أيّ بعد أيام قليلة. وكشفت صحيفة «نيويورك تايمز»، كما قال أحد المحللين العراقيين، عن وصول مزيد من الخبراء والمدرّبين الأميركيين، مما يعتقد معه أنّ عددهم قد بلغ الآن 7500 خبير ومدرّب، كلهم جاؤوا للمساعدة في عملية تحرير الموصل.
هذا التصميم الأميركي على الإسراع بعملية تحرير الموصل، مردّه رغبة واضحة لدى الرئيس أوباما بتحريرها من يد داعش قبل رحيله عن سدة الرئاسة بعد ثلاثة شهور تقريباً. ولعلّ السبب الكامن وراء رغبته تلك، هو شعوره بالذنب وبالمسؤولية عن سقوط الموصل ومحافظتين أخريين في أيدي الدولة الاسلامية منذ حزيران 2014.
فرغم إعلانه الحرب رسمياً على الدولة الإسلامية في خطاب له في الكلية العسكرية في نيويورك في 27 تموز 2014، ورغم ما ورده في الأيام التالية من تقارير الأقمار الصناعية وطائرات الأواكس ودرون، اضافة الى تقارير أجهزة الاستخبارات الأرضية، عن وجود تجمع غير مسبوق لرجال داعش في محافظة الأنبار، وما تبعه من تقارير عن تحرك تلك القوات باتجاه الشمال… رغم ذلك كله، لم يفعل شيئاً، كأن يأمر بقصف تلك القوات لإيقاف تحركها نحو الشمال، رغم أنّ عمليات قصف كهذه، كانت ستتناسب وتتلاءم مع إعلانه الحرب على «داعش» قبل أيام قليلة فحسب.
وقد ذهب أبعد من ذلك، فلم ينذر حكومة المالكي مثلاً بما يحدث على الأرض، لتتخذ بعض الإجراءات لإفشال الهجوم الداعشي، أو على الأقلّ اذا تعذّر عليها لسبب ما، مواجهة داعش مواجهة مباشرة، لتسحب قواتها وما معها من أسلحة ثقيلة قيمتها بمليارات الدولارات، من تلك المحافظة، تجنّباً لسقوطها في يد داعش. وكان انسحاب كهذا على أرض الواقع، سيشكل انتصاراً من نوع ما، على غرار الانتصار في معركة دنكرك البريطانية في الحرب العالمية الثانية، عندما حوصر عدد كبير من القوات البريطانية في «دنكرك»، ولم يبق أمامها مجال للانسحاب إلا عن طريق البحر، فجندت عندئذ كلّ القوى البريطانية، بما فيها زوارق الصيد، لإنقاذ الجيش البريطاني من الحصار، فاعتبرت دنكرك، رغم كونها قد تمثلت بعمليات انسحاب وليس مجابهة، نصراً هاماً سجلته بريطانيا في تاريخها الحديث.
لكن ما حصل على أرض الواقع في الموصل، أنّ تلك القوات قد بقيت في مواقعها، ولم تكن مستعدة لمجابهة كهذه، فلم تبد مقاومة تذكر، بل استسلمت معظم الفرق العسكرية دون قتال، ووقع جنودها وعددهم بالآلاف أسرى لدى داعش، فأعدمت من أعدمت منهم، خصوصاً الشيعة منهم، والتحق من بقي منهم بصفوف داعش حفاظاً على حياتهم. ومعهم تسلّمت داعش كامل الأسلحة من دبابات ومدرّعات ومدافع وغيرها من أنواع الأسلحة التي توافرت لدى الجيش العراقي. وهكذا بات لدى داعش جيشاً منظماً يعمل تحت امرتها، مما شكل التطور الأهمّ في مسيرتها.
وعلى ضوء ذلك، بات من الطبيعي أن تسعى الادارة الأميركية لتحرير الموصل بالسرعة الممكنة، وأن تحدّد الشهر المقبل موعداً للشروع بعملية التحرير تلك، رغم كلّ الاحتمالات بتعرض المدنيين في المدينة لأضرار قد تكون بالغة، ولمعاناة قد تكون محزنة ومؤلمة… ربما في غاية الإيلام. لكن معاناة المدنيين رغم ما تثيره من حزن في الصدور، وآلام في الضمائر الحية، لن تحول دون قيام الولايات المتحدة من جهة، والحكومة العراقية من جهة أخرى، بمحاولة تحرير الموصل من سيطرة تنظيم ارهابي، عاث فساداً في العراق وفي سورية وليبيا، بل وفي دول أوروبية أيضاً.
ومع ذلك تطالب الآن دول كثيرة سورية، بالتوقف فوراً عن تنفيذ معركة مشابهة في مدينة حلب، تسعى لإنقاذها من براثن تنظيم ارهابي آخر مشابه، هو تنظيم جبهة النصرة، المسمّاة الآن بجبهة فتح الشام المصنّفة دولياً ومن مجلس الأمن، بكونها تنظيماً ارهابياً. ويعلو الصراخ مطالباً سورية بالتوقف فوراً، انقاذاً لأرواح المدنيين في المدينة، الذين عانوا من الحصار الطويل، والآن يعانون من دمار القذائف التي لا ترحم.
وبطبيعة الحال، فانّ معاناة المدنيين في ظرف كهذا، شيء يؤلم الصدور والضمائر ويدعو دائماً للتعاطف معهم. كلّ ما في الأمر، أنّ الحرب والمعركة العسكرية، تبدو قاسية فعلاً على ضوء معاناة أولئك الأبرياء. ولكنها معركة تسعى للحيلولة دون بقاء مجموعة ارهابية متحكمة بأرواخ العباد، وهي قادرة وفاعلة وملحقة الأذى بآخرين. فجبهة النصرة كتنظيم ارهابي، لا يقلّ ضرراً عن تنظيم داعش الذي تسعى الولايات المتحدة والعراق معاً، للشروع بمقاتلته قريباً.
ويفترض بالرأي العام الدولي الذي يلوم ويدين سورية بسبب هجومها العسكري الساعي لتحرير شرق حلب من سطوة جبهة النصرة، أن يلحظوا الوجه الآخر للعملة، وألا يكتفوا برؤية وجه واحد من وجهيها. ولعلّ «الخطأ» الكبير الذي ارتكبته سورية، هو التعجيل بالهجوم لتحرير شرق حلب، اذ كان عليها أن تنتظر قليلاً لتبدأ الولايات المتحدة والعراق، بعملية تحرير الموصل، التي سيسقط فيها أيضاً الكثير من الأبرياء مهما اتخذ الجانبان من إجراءات الوقاية لتخفيف ذلك. لكن سورية وروسيا، رغبتا أيضاً، تماماً كالرئيس أوباما، في حسم الوضع قبل انتهاء ولاية أوباما وظهور رئيس جديد لا تعرف اتجاهاته.
فمع تزامن المعركتين، وسقوط الضحايا من الأبرياء في هذه المدينة وفي تلك في آن واحد، لا يعود أمام العالم… أمام فرنسا التي تسعى للحصول على إدانة في مجلس الأمن… أو أمام جون كيري الذي يهدّد الآن بوقف التنسيق مع روسيا إذا لم توقف هجومها فوراً على حلب… حججاً يتذرّعون بها، أو دموعاً يذرفونها على المدنيين، رغم ما يثيره سقوط المدنيين من آلام في الصدور، لكن دون أن ننسى أيضاً، أولئك المدنيين الذين يسقطون يومياً في اليمن نتيجة الغارات الجوية التي لا مبرّر لها. فالمدنيون لا يسقطون في حلب فحسب، أو سيسقطون في الموصل مستقبلاً، بل يسقطون للأسف في مواقع عديدة من هذا العالم، دون أن يلقى بعضها، كما في حالة من يسقطون يومياً في اليمن، إدانة شديدة واتهاماً بارتكاب جرائم حرب.
فهل كان كيري سيوقف هجومه على الموصل، ويترك داعش في أمان، حفاظاً على أرواح المدنيين الذين لا يرغب في سقوطهم ضحايا، رغم أنه لا أحد يرغب في رؤية ضحايا من المدنيين تسقط سواء في الموصل أو في حلب، أو في أيّ مكان آخر كاليمن مثلاً. وكانت طريق الخروج الآمن للمدنيين في حلب، قد تركت مفتوحة على مدى سبعة أيام من الهدنة… هدنة عيد الأضحى المبارك، كما تركت فرصة لمقاتلي المعارضة غير المصنّفين بالإرهابيين، للابتعاد عن مواقع جبهة النصرة المصنفة إرهابية، لكن أولئك لم يبتعدوا عنها. وقد خرج بعض المدنيين فعلاً طلباً للنجاة، لكن للأسف لم يخرج الجميع طلباً للسلامة والأمان، وقيل عندئذ بأنّ قناصة جبهة النصرة، كانوا يطلقون النار بغية قتل من يحاول الخروج، فيحرمهم من دروع بشرية وفيرة تؤمّن لهم بعض الحماية المرغوب فيها.
فمن هو المسؤول الحقيقي اذن عن معاناة ومقتل المدنيين، أو إصابة البعض من المعارضين غير المصنفين بالإرهابيين… سواء في حلب، أو في الموصل… باعتبار ما سيكون؟
مستشار في المركز الأوروبي العربي لمكافحة الارهاب – برلين.
عضو في مركز الحوار العربي الأميركي – واشنطن.