قالت له
قالت له: نولد مرّة واحدة ونموت مرّة واحدة. وقليلون هم الذين يعيشون الحبّ الذي يعتبرونه حبّ العمر من دون أن يكون قبله حبّاً آخر قالوا فيه في حينه أنه حبّ حياتهم. وربما الغد يأتي ويكونون قد غادروا حبّ اليوم، وقالوا إن الحبيب تغيّر أو أخطأ، أو أنهم اكتشفوا خداعاً. وبعد حين يدخلون في حبّ جديد ويقولون هذا هو الحبّ وكلّ ما عداه كان وهماً. فإن كنا نمضي العمر كذلك كيف نلوم على فشل الحبّ شريكاً نقول بعد حين إنه لم يكن حبيباً، بل كان وهماً. وكيف نفهم أن الحبّ الذي نحن فيه هو حبّ العمر وليس واحداً من خبرات الحبّ التي سنلوم الشريك على فشلها، ثم نراها وهماً؟
فقال لها: أن نحيا الحبّ خير من أن نحلّل فيه وله، لأن المشاعر التي نحياها تحيانا وتسكننا ولا نرى إلا عبرها ومن خلالها. والخروج من دائرتها لما نسمّيه الرؤيا الشاملة في حال الحبّ استحالة. فلا حبيب يقدر أن يطلع إلى خارج ذاته وينظر للحبّ بعين الحياد، ويصدر عليه الأحكام. والناس تتغير وتتبدل ومشكلتنا أننا نستعمل العقل البارد في قراءة شؤون الناس الحارة، ونستعمل القلب الحار في قراءة شؤوننا الباردة. فلن نتقبل ولو بالخيال أن يصير حبّنا الراهن المشتعل ماضياً وإلا لغادرناه الآن إن استطعنا التخيّل بكونه هشاً وضعيفاً ومعرّضاً للاهتزاز. ولو أن الأمر بالمنطق المطلق ليس خارج الاحتمال لكان التسليم به هو استعداد للفعل أو تمهيد للنفس أو تهيئة للحبيب بداعي العقل لقبول الفرضيات، لأن نهاية الحبّ حكاية كالموت مع فارق الولادة الممكنة لحبّ جديد عكس الحياة التي تنتهي لمرة واحدة. لكن ها نحن ندرك أن الموت حقيقة لا تشوبها شائبة، لكننا قد نبلغ من العمر أرذله ولا نرتضي التصرّف، كأن الموت آت غداً، وهو ليس احتمالاً بل حقيقة أكيدة. فمن أين يهبط العقل على الذين يقولون يجب أن نتهيأ في الحبّ لفرضية السقوط إلا لأن السقوط يكون قد بدأت تباشيره تطلّ برأسها. ويمكن القول أن مجرّد التفكير بالفرضية جهوزية لقبولها واستعداد للمضي بها، وبداية انفكاك تلك العقدة المتينة التي تربط حبال الحبّ بين حبيبين.
فقالت: أتظن سؤالي بداية خروج من حبّنا أم تساؤلاً من وحي حبّ سابق كنت أراه أبدياً وأراه اليوم وهماً، وأخشى أن أقع في الحفرة نفسها مرّتين. وأريد التحقق من أنني في الحبّ الحقيقي.
فقال لها: حيّرتك علامة ضعف الحبّ. ومعيار وقوعك في الحبّ الحقيقي ألا تشعري يوماً معه أنّ السؤال مطروح رغم أن السؤال مشروع. فالحبّ ليس مسألة رياضية كما الحبيب ليس دفتر شروط. فهل تستيطعين الجواب على سؤال أن الحبيب هو الأجمل أو الأعلم أو الأفضل وأنت تعلمين أنه دائماً يوجد أجمل وأعلم وأفضل؟ إن الحبّ حالة وليس حالاً، والحبيب هالة مغناطسية غامضة الألوان والجهات، وليس ملء استمارة بالمواصفات.
فقالت: التوتر والقلق يأتيان من الحبّ أم من ضعفه؟
فقال لها: يأتيان من قوة القوّة وضعف الضعف.
فقالت: كيف؟
فاستدار نحوها وقال: كما الأمّ مع طفلها لا تعطي بحساب ولا تتعلّم الحنان في كتاب ضعيفة أمامه، قوية لتحميه، ضعاف نحن أمام الحبّ أقوياء لنحميه. ومتى تبدّلت المعادلة كانت ساعة الفراق.
فقالت: وأنت قوّتي وضعفي.
فقبّل جبينها وقال: ما زلنا في الصف الأوّل من مدرسة الحبّ، فتعالي إلى الصف الثاني.
وتأبط زندها إلى زاوية مظلمة يقول بالصمت ولغة العيون نتعلّم صفنا الثاني.
فقالت: وصفّنا الثالث؟
فقال: يوم تأتي القبلة بالشفاه بلا موعد. وأغمض عينيه ينتظرها.