سقوط مراهنات واشنطن لتطويع الدور الروسي في سورية

تفاعلات المناظرة الرئاسية بين المرشحين، هيلاري كلينتون ودونالد ترامب، حازت على الحيز الأكبر من اهتمام الوسائل الإعلامية ومراكز الأبحاث الاميركية، على السواء والتي ما لبثت ان انبرت للتنديد بروسيا لاستئنافها معركة استئصال المجموعات المسلحة من الراضي السورية واكبها إصدار وزارة الخارجية الأميركية تهديداً لروسيا ليس لبتر جهود المشاورات الجارية فحسب، وفق التصريحات المتعددة، بل «توعدها» بإرسال فائض الإرهابيين للقيام بهجمات «ضد المصالح الروسية والتي قد تصل للمدن الروسية.»

سيستعرض قسم التحليل تداعيات توتر العلاقات الاميركية الروسية الجديدة عقب استحواذ البنتاغون وعسكرييها على القرار السياسي، وتعثر الجهود الاميركية لانقاذ المجموعات المسلحة في حلب بشكل خاص، مقابل استمرار جهود سورية وحلفائها استعادة السيطرة على اراضيها.

الاستراتيجية العليا في المناظرة الرئاسية

سارعت النخب الفكرية الأميركية استغلال المناظرة الرئاسية للترويج لسياساتها وادبياتها، كان من أبرزها معهد المشروع الاميركي في دفاعه عن الاتفاق النووي مع ايران لا سيما أن «الرئيس أوباما ليس هو من سمح لإيران بتطوير بنيتها النووية التحتية بل الانفصام الذي أصاب سياسة الرئيس بوش الابن نحو ايران». واتهم المعهد كبار معاوني بوش، وزير الخارجية الاسبق كولن باول ومستشارة الأمن القومي كونداليسا رايس ونائب وزير الخارجية الأسبق ريتشارد آرميتاج، الذين «قوّضوا» جهود سياسة الاحتواء، واستطاع ذلك الفريق «الفوز بتأييد شبه اجماع أممي باستصدار قرارات من مجلس الأمن الدولي لتعزيز الضغوط الدولية المفروضة على إيران، خاصة في أعقاب بروز برنامجها النشط لتخصيب اليورانيوم». وأوضح ان دول الاتحاد الأوروبي شرعت في زيادة حجم تبادلها التجاري مع إيران «ثلاثة أضعاف بين السنوات 1998 2005 ابان ارتفاع سعر النفط اربعة اضعاف ما كان عليه سابقا».

توجهات مرشحي الرئاسة لصياغة سياسة «مؤيدة لاسرائيل» كانت محور تركيز معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى معتبراً سجالهما نمطياً «وقصة قديمة ومعروفة.. وللأسف لم تكن هناك مناقشة تذكر حول القضايا الملحة» التي تنتظر الرئيس المقبل، أهمها «سورية وإيران وداعش وتعزيز التحالفات مع الحلفاء» في الاقليم. واعرب المعهد عن ضيق ذرعه من عدم إقدام المرشحة كلينتون «للنأي بنفسها عن اوباما» في ما يخص قانون «جاستا قانون العدالة ضد رعاة الارهاب». وحث المعهد المرشحيْن على إدراج قضايا «الأمن القومي الذي يشمل الشرق الاوسط» والمسائل سابقة الذكر في الجولتين المقبلتين.

ناشد مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صناع القرار الاستفادة من دروس تجارب التدخل العسكري في «العراق وليبيا واليمن وسورية» اذ اثبتت «عجزها عن ارساء الاستقرار المنشود» وتستدعي تناول ما اسفرت عنه من مآسي «وانهاء حالة الحرب.» وشدد المركز على ما تجلبه الحروب من «تغييرات جذرية في الدول المعنية تمضي الى نهايات لم تكن في حسبان الاطراف المنخرطة: البنية الاجتماعية الاقتصاد علاقات الترابط بين المجموعات العرقية والطائفية المتعددة.» واوضح ان التغيرات العالمية فرضت نفسها على كيفية تعاطي الولايات المتحدة التي «اضحت في مواجهة عالم تستطيع التأثير فيه، في افضل الاحوال، لكنها لن تقدر على التحكم النهائي بمسار اي صراع تكون طرفا فيه». ومن بين الدروس التي ينبغي على صناع القرار الأخذ بها بعين الاعتبار، أردف المركز انه لا يدعو لانتهاج «سياسة العزلة والتقوقع داخل حدود الولايات المتحدة عندما تتعثر المسيرة الشاملة.. بل ينبغي على إدارة الرئيس اوباما الاعداد لأفضل الحلول المرحلية لافغانستان والعراق وليبيا وسورية واليمن»، قبل رحيلها مستنداً الى «حقيقة ان الولايات المتحدة ليس باستطاعتها السيطرة على التحولات المستقبلية ويتعين عليها التكيف مع المتغيرات».

سورية

أعرب معهد هدسون عن أسفه الشديد لانهيار الاتفاق الثنائي مع الجانب الروسي حول سورية «وذعر وزير الخارجية جون كيري.. من إحراز سلاح الجو الروسي تقدماً حقيقياً» في حلب ووصفه الأوضاع بأنها «غير مقبولة.. وأبعد من شاحبة». وأضاف المعهد ان التقدم الروسي جاء «على حساب سياسة الرئيس اوباما في سورية.. وهي سياسة الاستسلام المدْقِع بثوب من الديبلوماسية التي لن تجلب لإدارة الرئيس اوباما سوى الذل والتحقير». واتهم المعهد فريق الرئيس أوباما للأمن القومي بأنه «نفض يديه من سورية نتيجة عجزه امام تواضع الخيارات المتاحة، وعقم المراهنة على التغيير بالوسائل المتبعة.» واستطرد بالقول ان الرئيس الروسي فلاديمير بوتين «تتوفر لديه جملة خيارات بالمقابل، بل هي اكثر جاذبية مما كان متاحاً له قبل اربع سنوات في الساحة السورية». واضاف ان الجانب الروسي «يرفل بالسعادة والسرور لتلقيه مكالمة هاتفية من وزير الخارجية جون كيري يقترح فيها الذهاب لجولة جديدة من المفاوضات».

الأردن

رحب معهد واشنطن لسياسات الشرق الادنى بقرار الحكومة الأردنية «الاستراتيجي لشراء الغاز الاسرائيلي.. على الرغم من عدم رضى معظم الاردنيين». واعتبر المعهد ان الاردن أقدم على ابرام الصفقة من منطلق «تجاري منطقي لكنه غير مريح سياسيا». واوضح ان عمّان تحاشت الاعلان عنه قبل الانتخابات النيابية خشية استغلاله. اما دور الولايات المتحدة في المسألة فهو اكثر من فاعل نشط اذ «من المرجح ان تقوم الولايات المتحدة.. بتمويل خط انابيب يربط شبكة الغاز بين اسرائيل والاردن». كما ان «هولندا.. ستقوم بدور الوسيط لتوريد الغاز الاسرائيلي الى محطة توليد الكهرباء في قطاع غزة..»

المملكة السعودية

رحب معهد المشروع الاميركي بقرار الكونغرس لمحاسبة السعودية، ولافشاله مسعى فيتو الرئيس اوباما، لا سيما انه «سيُخضع السعودية للمساءلة لتورطها في الإرهاب على مدى عقود ثلاثة مضت بالرغم من إتاحته الفرصة لإلحاق الأذى بالاميركيين». وشدد المعهد على ان «الشك لا يساور احداً بأن السعودية قامت بتمويل مساجد السلفيين عبر العالم.. من ضمنها مسجد حي مولنبيك في بروكسيل الذي يعد من أضخم المشاريع الممولة سعودياً.. منذ بداية عقد السبعينيات ومن باكستان لبلجيكا ولوس انجليس». وزعم المعهد انه على الرغم من «تبرئة» السعودية من قبل مسؤولي الادارة الاميركية والتقرير الصادر عن لجنة التحقيق باحداث 11 أيلول، فالثابت ان الوثائق «تدل على انخراط كبير لمسؤولين سعوديين مع منفذي الهجمات، على أقل تعديل، ووفروا التمويل المالي لهم».

إيران

حث معهد كارنيغي وكالة الطاقة الدولية على التأني في إعداد تقاريرها الخاصة بالتزامات إيران وفق نصوص الاتفاقية «بغية توفير فسحة أعلى من الثقة بأن كافة نشاطات إيران النووية هي للأغراض السلمية بالكامل.. مما يستدعي بذل مزيد من الجهود للحوار.. والتوصل لاستنتاجات شاملة.. خاصة أن إيران شرعت منذ 16 من كانون الثاني/ يناير 2016 بتنفيذ البروتوكولات الاضافية والتي تنتظر مصادقة البرلمان عليها». واضاف ان التوصل الجمعي لتلك المرحلة المتقدمة يستدعي توفر «تعريفاً مشتركاً للدول أعضاء الاتفاقية حول ماهية الاستنتاجات النهائية لناحية ما تعنيه وما لا تعنيه ايضا آلية التوصل للخلاصات المشتركة الأسس التي ينبغي الالتزام بها من قبل الدولة المعنية الضرورية لتجديد العمل وكيفية رد الوكالة الدولية والدول الاعضاء عند التوصل لمرحلة تجديد العمل».

التطرف في غرب افريقيا

اعتبر مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية منطقة الساحل الغربي لأفريقيا ذات «أهمية استراتيجية للولايات المتحدة وحلفائها.. والتي ابتلت بتواجد المنظمات المتطرفة» على اراضيها «وهي نتاج لتمددها السام في ليبيا». ولفت المركز الانظار الى ان تلك المنظمات، ومنها بوكو حرام والقاعدة، آخذة في «التطور وتشكل تهديداً حقيقياً للاستقرار الاقليمي». وأعرب عن شديد قلقه من خطورة تمدد تلك المجموعات وتفرعاتها والتي تشهد انتعاشاً في ظل سيادة أجواء جملة أزمات منها «غياب التنمية والإقصاء السياسي وفشل آليات الحكم واستشراء الفساد والجريمة المنظمة».

استنزاف لا قطيعة!

قد لا تصل الأمور إلى القطيعة التامة بين واشنطن وموسكو لكن السباق في حرب الاستنزاف الطويلة التي تفضلها واشنطن في سورية لكل من الدولة السورية وحلفائها وفي مقدمتهم الروس، سيستمر إلى أن يتم تحقيق توازن قوى جديد في الميدان.

لم يغفر أوباما لبوتين ما اعتبره خديعة وإساءة بعدم إبلاغه بما ينوي الإقدام عليه في سورية، إذ انطلقت القاذفات والصواريخ الروسية في قصف مواقع الجماعات المسلحة بعد يومين فقط من لقائهما في نيويورك على هامش اجتماعات الدورة السنوية للأمم المتحدة في عام 2015.

بعد مساءلات الكونغرس بشأن الفشل الاستخباري كان الجواب «كنّا نراقب التحركات الروسية وعلى علم بالتحشد في سورية، وكنا نعتقد أنها لاستعراض القوة أو لإجراء مناورات مفاجئة». لكن السفير الأميركي السابق في روسيا، مايكل ماكفول، يعلّق قائلاً: «حتى لو لم يفاجئنا الروس ماذا كان يتوفر لدينا من خيارات؟» يقصد أن واشنطن لم يكن لديها خيار المواجهة المباشرة لمنع أو ردع التحرك الروسي.

بعد التحرك العسكري الروسي في سورية تميّز موقف واشنطن بالتحذير والانتقاد بأنه سيزيد الأزمة اشتعالاً، ويدفع بالجماعات المسلحة إلى المزيد من التطرف. فواشنطن اعتقدت أن روسيا لن تتمكن من تفادي الوقوع في المستنقع ولن تنجح في تدخلها. لكنها تكيّفت منذ الانخراط الروسي مع حقيقة فعالية الدور الروسي وتكثفت المشاورات واللقاءات الثنائية بين كيري ولافروف التي وصلت إلى 20 لقاء في عام 2015. وتم التوافق على تنسيق حركة الطيران بين الطرفين، في الاجواء السورية، لمنع إمكانية وقوع حوادث.

تدريجياً لحظنا الانتقال إلى رعاية ثنائية لكل المساعي الدبلوماسية أو المفاوضات المقترحة عبر الأمم المتحدة، وكذلك التوصل إلى تفاهمات وقرارات من الأمم المتحدة تجاوزاً لدور معسكر واشنطن أو دور دول تحالفها أو حتى «المجموعة الدولية حول سورية». ثبتت موسكو موقعها كطرف أساسي في معالجة الملف السوري. وأملت واشنطن بعد رضوخها للدور الروسي أن تغري موسكو بتخفيف العقوبات عليها من تداعيات الأزمة الأوكرانية، فرددت واشنطن تباعاً بأنها «ترحب بأي جهد روسي في سورية يساعد على محاربة داعش».

ولخصت تصريحات الرئيس الأميركي باراك أوباما أمام الجنود الأميركيين في إحدى القواعد العسكرية الأميركية بمناسبة ذكرى أحداث أيلول/ سبتمبر بتاريخ 11/9/2015 موقف واشنطن بالقول: «إن الاستراتيجية الروسية في دعم نظام بشار الأسد في سورية آيلة إلى السقوط». إنما اعترف بـ «أننا نتقاسم الرغبة مع روسيا في مكافحة التطرف العنيف». وفي إشارته إلى الروس أوضح «إذا كانوا مستعدين للعمل معنا ومع الدول الـ 60 التي يتألف منها الائتلاف، عندها ستكون هناك إمكانية للتوصل إلى اتفاق انتقالي في سورية». لكنه ظل متحفظاً بشأن «مضي روسيا بالإعتقاد أن الأسد شخص يستحق الدعم» واصفاً الرئيس السوري بأنه «شخص مدمّر لشعبه، حوّل بلاده إلى منطقة تجذب «الجهاديين من كل المنطقة». وفي ذلك بدت واشنطن وكأنها تسعى لتحويل الوجود الروسي إلى تورّط في مستنقع ترى فيه فرصة لاستثماره لصالحها بدفع روسيا إلى خيار التخلي عن التمسك بالرئيس الأسد ثمناً للوصول إلى تفاهمات لعملية سياسية انتقالية تؤدي إلى تقليص دوره، تمهيداً للتخلي المرحلي أو التدريجي عنه.

علقت واشنطن الآمال لدى إعلان روسيا عن سحب جزء من قواتها ومعداتها من المسرح السوري في آذار/ مارس الماضي. وتبين لاحقاً أنها مناورة روسية لتشجيع واشنطن على تحقيق تفاهمات والتوصل إلى هدنة. لكن الهدنة فشلت مرات عدّة وصولاً إلى الحالة الراهنة التي تهدد فيها واشنطن بتجميد التعاون مع روسيا في الملف السوري، وخاصة بعد السجال والاتهامات المتبادلة بشأن من يتحمل إفشال تنفيذ الاتفاق الأخير.

لا شك أن تعامل واشنطن في الملف السوري يؤكد ارتباك سياستها ومحدودية خياراتها، إذ لا يمكن أن يتمادى أي جهاز في الإدارة بعيداً عن قمة السلطة الممسكة بكل الخيوط. والأحرى أن خيبة أمل أوباما في إحراز نجاحات لسياسته في سورية، يوسع هامش المناورة والغموض فتبدو إدارته في نهاية عهدها مسكونة بعدم خلق الانطباع أنها سمحت لروسيا بأن تستعيد مكانتها الدولية عبر المسرح السوري وتقدم بذلك منصة تصويب انتقادية للحزب الجمهوري في انتخابات رئاسية مفصلية.

ويبدو السجال العلني والتهديدات بتجميد التعاون مع روسيا حول الملف السوري إعادة تأكيد لنظرة المؤسسة الأميركية التقليدية التي لا تزال تعتبر أن روسيا هي التحدي الأخطر عليها من تحدي الإرهاب. وبالتالي لن تقبل واشنطن التعامل مع روسيا كطرف متكافئ معها وستبقى تسعى لإضعافها وتطويقها وتشديد العقوبات الاقتصادية عليها.

قد لا تصل الأمور إلى القطيعة التامة بين واشنطن وموسكو لكن السباق في حرب الاستنزاف الطويلة التي تفضلها واشنطن في سورية لكل من الدولة السورية وحلفائها وفي مقدمتهم الروس، سيستمر إلى أن يتم تحقيق توازن قوى جديد في الميدان.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى