جوبر بين صيفين
عامر نعيم الياس
صيف عام 2013، وتحديداً أواخر شهر تموز، بدأ الجيش العربي السوري عمليةً عسكريةً في الغوطة الشرقية، شملت مناطق عدّة كان أهمها تلك القريبة من قلب العاصمة من جهة الشرق، خصوصاً أحياء جوبر وعين ترما وزملكا. لكن جوبر حافظت على مركز الصدارة في هذا الهجوم سواءً بالنسبة إلى الرأي العام الدمشقي الذي يتحسّس خطر وجود المسلّحين على بعد كيلومتر واحد من ساحة العباسيين. ذاك التهديد المترافق مع أجندة لا تنتهي من مواعيد وتواريخ وحرب إعلامية تدور حول «غزو دمشق من البوابة الشرقية»، أو بالنسبة إلى الدولة السورية التي خرج وزير الخارجية فيها وليد المعلّم في مؤتمر صحافي ليشدّد حينذاك على أهمية عمليات الجيش السوري في جوبر والهدف الكامن من وراء ذلك، والمتمثل «بحماية الأحياء الشرقية للعاصمة، خصوصاً المواطنين الآمنين في حيّ القصاع الدمشقي»، وفق التعبير الحرفي للوزير المعلّم،
وبالفعل، حقق الجيش السوري تقدّماً ملموساً على الأرض، دفع العامة إلى تنفس الصعداء والجزم بالانتهاء من معضلة جوبر وقذائف الهاون التي قتلت من قتلت من مدنيي شرق العاصمة. هنا، وفي 13 آب من عام 2013 حضر سيناريو استخدام السلاح الكيماوي على مدنيّي الغوطة الشرقية، وبدأت الصور والمقاطع المصوّرة تتوالى على شاشات الفضائيات الكونية لتثبت القتل باستخدام سلاح محرّم دولياً من جانب السلطات الفرنسية، تمّ مواكبتها بحملة صحافية تولّت بموجبها «لوموند» الفرنسية تحليل العيّنات المأخوذة من الغوطة الشرقية وأثبتت في «مختبرات متخصصة» استخدام الكيماوي في الغوطة الشرقية. خرج الرئيس الأميركي ليعلن عن نيّته «معاقبة النظام السوري» لتجاوزه «الخطوط الحمراء»، هنا، أوقفت العمليات العسكرية نهائياً في الغوطة الشرقية والتفت الجيش السوري إلى عملية التحضير لمواجهة العدوان عسكرياً والعمل على سحب الذرائع من الغرب سياسياً. فيما عادت جوبر إلى واجهة الرهانات على اعتبارها النقطة الأولى والأساسية لاقتحام العاصمة السورية من جهة الشرق في حال حدوث الضربة الأميركية والتي تم التراجع عنها بعد اتفاق الكيماوي الروسي الأميركي وصدور قرار مجلس الأمن في أيلول من عام 2013 حول سورية. لكن الهدف الغربي من وراء الضغط والتهويل تحقق، وبقيت جوبر بمنأى عن الحسم العسكري.
صيف عام 2014، وتحديداً أواخر شهر آب المنصرم، بدأ الجيش العربي السوري عمليةً واسعة لإسقاط الرهان الغربي على جوبر واستكمال السيطرة على بعض المدن الحساسة في الغوطة الشرقية كان أولها المليحة وقطع خطوط الإمداد في جسرين وزبدين تمهيداً لتطهير القوس القريب من العاصمة دمشق ومطار دمشق الدولي. ووفقاً لمجريات الأمور المعروفة، يحقّق الجيش السوري تقدّماً ملحوظاً في الغوطة الشرقية ابتداءً من المليحة مروراً بوادي عين ترما وليس انتهاءً بجوبر التي غابت نهائياً عن شاشات التلفزة وصفحات الصحف. فلا كيماوي ولا نداءات استغاثة لمساعدة «المتمرّدين المعتدلين» داخلها، فما الجديد؟
في غمرة الحديث عن تحالف دولي إقليمي للحرب على تنظيم «الدولة الإسلامية»، تشكّل سورية عقدته المرهقة وسؤاله الصعب. يتقدّم الجيش العربي السوري في واحدة من المرتكزات الميدانية الأساسية للرهان الأميركي على تغيير موازين القوى في سورية وإبقاء العاصمة دمشق وسكانها تحت الضغط الميداني. تقدمٌ غاب بشكل لافت عن صفحات الصحافة الغربية في معالجتها اليومية للملف السوري، على عكس ما شهده العام الماضي حول الموضوع ذاته الذي كان عنواناً رئيساً لمجمل حركة الإعلام الغربي. الأمر الذي يعكس تغيّراً أكيداً في أولويات التفكير الغربي في ما يخص الأحداث في سورية ووضعيتها بشكل عام على المستويين الدولي والإقليمي. على رغم أنّ رفض التعاون العلني مع الدولة السورية في ما يخصّ الحرب على «داعش» لا يزال قائماً.
هذا التغيّر يتجاوز حدود رفض وقبول انضمام دمشق إلى تحالف أوباما ضدّ «داعش» إلى الموافقة الضمنية على إدارة الحرب على الإرهاب بصورة مستقلة شكلاً، مرتبطة مضموناً مع التحالف المنوي تشكيله هذا من جهة. ومن جهة أخرى يطرح التسليم بسقوط جبهة دمشق عددٍ من علامات الاستفهام على أفق الرهان الأطلسي ـ الأميركي في سورية وعوامل قوّته، من دون أن نغفل الغارات الجوّية اليومية الفعّالة على مواقع «داعش» في الرقّة.
هي جوبر بين صيفين، دليلٌ واضحٌ على وجود تغيّرٍ محسوس في التموضع الغربي من سورية ودولتها و«متمرديها».
كاتب سوري