غسان صليبا …موهبة هادئة لا تنافِس ولا تنافَس
جهاد أيوب
يتعامل مع الفنّ بحرفنة، ومع الغناء بكبرياء، ويختار ما ينطق به بثقة وتهذيب. يحترم من سبقه في الفنّ كما حاله مع الكبار، ويصغي بأدب كي يستفيد ويتعلّم ويعلّم.
غسان صليبا، قد لا تحبّ صوته وغنائه وفنّه وحضوره، ولكنك تحترم تجربته، وتعاليه على صغائر الفنّ، وتنقيبه على أعمال تليق بنا وبه وبالفنّ اللبناني، وترفع له القبعة احتراماً لجدّيته في الغناء، ولتوازنه مع الشهرة، واتّزانه في الفنّ، وحفاظه على صوته وسمعته ومشواره.
غسان صليبا صاحب الصوت القوي، والمتميّز بدفء نبراته وحنان تنقله برشاقة من نغم إلى نغم. صوته يشبه حدّة صخر ضيعته «مجدل» في العاقورة، وكرم ترابها، وتنوّع شجرها.
يعتبر صوت غسان من خامة الأصوات الثاقبة التي تسبح في مساحة كبيرة، يجلجل كصخر الصوان، يرتفع هادراً، وينخفض حنوناً، يرسم في معالمه آفاق جديدة تزيده رونقاً، يسلّم القرار والجواب بسهوله، يفهم بأداء الموال كما صعوبة الآفلة التي يتقنهما، هو ابن البلد في مواقفه، ورفيق القرية في كل المناسبات، ورجل المدينة والحيّ في تعامله مع فنه ومحيطه، يشبهنا ويزيدنا شهامة في تصرفاته، ويحبّنا ويزيدنا إيماناً بوطنه، ويزرع حقولنا ويزيدنا صبراً وينتظر الثمار. هو صوت الجبل في حدّته وإمكانياته، وهو صوت الوديان في تدفقه مؤدياً بهدوء من دون تكلف، وهو صوت الساحل بأشرعة البحر وأمواجه العاتية. باختصار، هو صوت كلّ المناسبات مع كلّ الإمكانيات.
يؤدّي غسان صليبا السهل الممتنع، وبمقدوره أن يحطّم الصعب من دون تعب، لا يدّعي الغناء بقدر ما يسترسل بنغماته، ولا يتعمّد العُرَب الصوتية بقدر ما يعرف كيف يستخدمها من دون أن يخدش السمع. والأهم أنّه يغني بعيداً عن التصنّع والهبل حيث يقال إنه يرتجل كما هو حاصل مع صيصان غناء اليوم أو مع أصوات جميلة لكنها تجهل ألف باء الاداء. هنا غسان يؤدّي باقتدار، وبتفوّق وباحترام وبانسجام ما بين الكلمة والصوت والإحساس.
منذ انطلاقته الفنية بدأت معه موهبة هادئة لا تشوبها شائبة، ثقفها وأبعدها عمّا هو سائد. والأخطر أنه ترك لعبة الأضواء الإعلامية، وكذبة النجومية، وحروب الزملاء بحجّة التنافس ليصنع معادلته وغرفته وحركته بعيداً عن المنافسة الشرسة التي تتلف الأعصاب، وتشتّت الجهود. وقرّر أن ينافس موهبته بفنّه لا بفنّ غيره، وهذا أعطاه منزلة محترمة عند الجميع، محبّين أو أصدقاء، أو حتى أعداء الكار.
بداياته كانت مع المخرج سيمون أسمر في «ستديو الفن» ونال المرتبة الأولى، وأخذ بالانتشار من خلال الأعمال الشعبية أهمها «يا حلوة شعرك داريه»، و«وجه السعد»، وصولاً إلى الحضور اللافت من خلال دوره الأساس في مسرحية «بترا» مع الأخوين رحباني عام 1977، ثمّ شارك في بطولة مسرحية «حكاية أمل» مع المخرج والكاتب روميو لحود.
وحينما قدّم البطولة المطلقة في مسرحية «صيف 840» لمنصور الرحباني عام 1988، ظهرت موهبته مكتملة شكلاً ومضموناً، وبانت تقنيات صوته بنبرات وإمكانيات قوية تؤدّي بعنف وحنوّ معاً، وبرز أداؤه التمثيليّ جلياً. ومنذ تلك الإطلالة لفت أنظار النقاد والمختصين، وصُنّف من الفنانين المهمين، وحمل مسؤولية الحفاظ على جدّية الأغنية اللبنانية.
تعامل مع التجربة الرحبانية من دون ضجيج، وبعيداً عن التغنّي والغرور رغم حسد الزملاء الذين تمنّوا أن يكونوا مكانه. وترك للآخر أن يتحدّث عنها. وذات مرّة، ولكونه أصبح من البيت الرحباني، شعر بالغبن وبتفضيل ذاك عنه، حمل صوته وفنّه في حقيبة كرامته ومشى من دون أن يجرح ويتطاول، وتعمّد ألّا يوصل خبر انسحابه إلى الإعلام والأقلام الصفراء الشامتة التي تنتظر خلف الباب. وما أن أدرك الرحابنة خطأهم، حتى صُحّح الفعل، ولكن غسان قرّر أن تكون الامور أكثر وضوحاً بعيداً عن «الخوش بوشية» احتراماً لقيمة الفنّ والإنسان الذي يسكنه، وهكذا كان وتعاملا به.
حينما طلب رئيس الوزراء الراحل رفيق الحريري من الأسطورة صباح أن تقدّم سيرة حياتها في تلفزيون «المستقبل» «مشوار حياتي»، هي التي حدّدت الضيوف ومن سيحاورها، وقد أصرّت أن يكون غسان صليبا الضيف الأساس للحلقة الأولى رغم معارضة جميع من حولها. تبريرهم أنّ الحلقة الأولى تتطلّب شخصية أكثر شهرة وأوسع انتشاراً وجدلية.
رفضت السيدة صباح التبرير قائلة حرفياً: «ما بتكفيكم أخلاقه العالية، وشخصيته المحترمة، وجمال أناقته وتهذيبه. أنا دوري أن أقف وأساند فناناً كهذا يُثري ولا يزعج، ويحبّ عمله ووطنه ولا يربّحنا جميلاً». وكان لها ما أرادت، والنتيجة رائعة، وكما خطّطت بالاختيار الصحّ.
سمعة الفنان في أخلاقه وتعامله مع الزملاء ومن حوله لا تضرّ به بقدر ما تفرضه أينما حلّ، وهذه الحادثة التي لا يعرفها غسان دليل على أنه شخصية فنية متصالحة مع الشخصية الاجتماعية والإنسانية معه، لا بل فرضته فرضاً، ويشار إليه بالبنان من قبل الجميع.
قد ينتقد بحدّة لاكتفائه بالمسرح الغنائي من دون المغامرة بالغناء على المسرح المفتوح والفنون البديلة، وتبريره أن من يعمل في المسرح اليومي يشعر بسحر الفنّ.
ويتّهم أيضاً بالكسل، وبالتقصير تجاه صوته وغنائه، من دون أن ينوّع باختياراته، ويحرم الملحّنين من اللعب على وتر إمكانياته الصوتية. وباعتقادي هذه الملاحظة صائبة، ويتحمّل غسان هذا التقصير، لكونه مُقِلاً بإنتاجه وتنوّع غنائه، ومنذ سنوات لم يقدّم أغنية شعبية أو كلاسيكية ضاربة ومنتشرة. همّه غناء الوطنيات لخوفه على وطن يتشتّت ويضيع.
وذات حديث قال لي حرفياً: «شو نفعنا ونفع فنوننا من دون الوطن، لذلك غنائي الوطني مسؤولية كما حال احترامي للأصوات الكبيرة التي صنعت قلاعنا كالسيدة صباح والأستاذ وديع الصافي».
ومع احترامي لرأيه، إلا أن قدر الفنان أن ينتقل من جديد إلى جديد، خصوصاً إذا كان مُقِلاً في حواراته، ومشاركاته بالبرامج المنوعة، وهنا غسان ينقب كثيراً، ولا يطلّ عبر أيّ برنامج إذا لم يكن ذا مستوى، وأحياناً يرفض المشاركة إذا وجد المقدّم ساخراً وخفيفاً، ولا يكون سيّد مكانه. لذلك، ونظراً إلى الوضع الفنّي العربي العام، وعدم إبراز أغنية لافتة بل تكرار في المواضيع والألحان التركية واليونانية، وجلوس من يملك صوتاً قوياً وحاضراً خارج الدائرة، على صوت غسان صليبا المتمكن أن يتحمل المسؤولية في تقديم الجديد اللافت، ومخاطبة الشباب، والتواصل معهم، لا الاكتفاء بما قد حصل، والخنوع وترك الساحة لمن ليس لديهم موهبة، ثم ننتقد الواقع الفني ونحن خارج السرب.
على غسان صليبا مسؤولية أكبر مما كانت عليه حينما بدأ، اليوم، وبغياب الصوت الفعل التحدّي المسؤول، والغالبية تتعامل مع الفنّ بكلام ومن بعده الكلام من دون قيمة، لا بدّ لمن يملك الموهبة والإمكانيات العالية، ولا يزال شاباً ونشيطاً ومحبّاً للفنّ، أن يعمل على أنه ينطلق من جديد، وأن الساحة لا تزال تليق به، وأنّ الفن النظيف يكشف الخسيس، ويساهم في معالجة الذوق العام.
من يملك موهبة ذهبية لا يحقّ له الانزواء، ومطالَب بالتحدّي والمغامرة، والتواجد بدراية المحافظة على قيمته حتى لو انتقد.
غسان صليبا لا يزال شاباً ينقصه نشاط التواجد والأغنية الجديدة، وعليه أن يدرك أنه من حرّاس الأغنية العربية واللبنانية، وألا يكتفي بنشاطه الصيفي هنا وهناك. لا بل لا بدّ من أسطوانة غنائية تحتوي الشعبي والكلاسيكي والرومنسي والوطني بمشاركة أجيال شابة باللحن والكلمة. حرام عليه أن يحرم عدداً من الملحّنين والشعراء الشباب من قدرات صوته، وخبراته، وحضوره.
غسان صليبا ليس مطرباً عادياً والسلام، وليس فناناً عابراً وانتهينا، وليس مجرّد فرصة، بل هو قيمة دورنا أن نحافظ عليها، ودوره أن يعيش المنافسة دائماً مع غسان ومع الفنّ كما عهدناه.