تفكير هادئ في السياسة: كيف أنجز الروس الهدف من التفاهم؟
ناصر قنديل
– خلال عام من الدور العسكري الروسي العالي الوتيرة في الحرب السورية، بدا بوضوح أن الهدف الذي بقي دائماً في موسكو هو جذب واشنطن إلى تعاون في الحرب على جبهة النصرة، لكونها برأيهم المصدر الرئيسي للخطر على الدولة والجيش في سورية، وحصان الرهان الخفي لكل الساعين لإسقاط الرئيس السوري، وبدونها لا باب لأي معارضة سياسية أو عسكرية إلا الحل السياسي الذي يقوم على حكومة موحدة في ظل الرئيس السوري، تمهيداً لانتخابات بمشاركته، ولقناعتهم العميقة أن الفوارق بين النصرة وداعش تكتيكية، تتّصل بالفرق بين آليتين لنشر عقيدة التكفير وتعميمها كمنهج، آلية ترى السيطرة على جزء من الجغرافيا وبناء آلية حكم محلية، تشبه ما تفعله طالبان والنصرة، ومثلها دعم نظائر لها حيث يمكن عبر التنظيم الأم الإمساك بجغرافيا جديدة، وبعد التمكّن من العودة للبرنامج الأممي باستهداف الخارج، الذي يتولاه التنظيم الأم، معفياً الفروع المحلية من تبعات تصنيفها على لوائح الإرهاب. وهذا هو منهج أيمن الظواهري الذي نجح بفضله بدمج الإخوان المسلمين مع تشكيلات القاعدة في سورية، فصار أحد قادة النصرة القائد العسكري للإخوان، وبين منهج القاعدة القديم الذي تبنّاه أسامة بن لادن ويواصل داعش العمل به ويقوم على المواظبة على العمل الأممي واستهداف الخارج انطلاقاً من منهجية أولوية التعبئة على السياسة. فبدون العمل الخارجي لا يمكن ضمّ موجات بشرية جديدة لصفوف التنظيم.
– هذه الحلقة المحورية في الاستراتيجية الروسية بقيت حاضرة في كلّ مراحل العمل العسكري والتفاوضي. وظهرت بوضوح في التفاهم الذي أمضى الروس شهوراً لبلوغه مع الأميركيين، وتلقوا انتقادات عديدة من بعض الحلفاء على عبثية السعي لجذب الأميركيين لمشروعهم، ولو بجعلهم يختارون بين فرضية خسارة كلّ شيء، أو القبول بهذه الشراكة. وبمثل ما جعل التفاهم كنص وإنجاز سياسي الكثير يسلّمون لموسكو بصوابية سعيها ورهانها، جعل تعثره وصولاً لانفجار علني عنيف للعلاقات الأميركية الروسية يعودون للحديث عن عبثية الرهان والسعي معاً، لكن السؤال هو ماذا جرى بعد ذلك؟
– ميدانياً، انطلقت حملة عسكرية سورية مع الحلفاء بدعم روسي استثنائي في حلب وريفها ونجحت خلال عشرة أيام بتحقيق اختراقات نوعية، وشكلت ضغطاً على الغرب وفي طليعته واشنطن للحديث عن بدائل تمنع سقوط حلب بيد الجيش السوري، ولو كان العنوان مغلفاً بالحديث الإنساني، ووصل الكلام عن غارات أميركية على الجيش السوري، وعن صواريخ مجنّحة تستهدف مدارج المطارات، وكان الردّ الروسي أعنف، فقالت موسكو إنّ منظومة الـ«أس 300» ومنظومة الـ«أس 400» ستشغلان ضدّ أيّ هدف جوي، طائرة كان أم صاروخاً، لأن لا وقت لدى الشبكات وراداراتها لتبيّن الوجهة والهدف والمصدر قبل إسقاط أيّ جسم طائر، وكانت الردود الأميركية تراجعية بإظهار عدم النية بمثل هذه الاستهدافات، وتظهير الرغبة بالنجاح في وقف النار، وأصدر البيت الأبيض بيانات متلاحقة لتوضيح لا جدوى الخيار العسكري في سورية، بمثل ما سبق أن أوضح ذلك كلام وزير الخارجية الأميركي جون كيري في تسجيله المسرّب معنى أنّ التصعيد سيجلب التصعيد، وأنّ الخاسر الأكبر ستكون الفصائل القريبة من واشنطن التي رفضت وصفة الحلّ السياسي، والتي سيُقضى عليها نهائياً، وفقاً لكلام كيري.
– الذي جرى عملياً، أنّ الجحيم الذي حذر الأميركيون حلفاءهم من وقوعه، كتبرير لذهابهم للتفاهم مع موسكو، رغم كل ما فيه من تنازلات، لم يعُد جحيماً على الورق، بل تحقق في الواقع. وأن التصعيد الذي سيجلب التصعيد الذي حذر منه كيري، برز كمشهد بحلقات متسلسلة، وهذا ليس ناجماً عن توزيع مسرحي للأدوار بين واشنطن وموسكو، بل عن حقيقة كون ما توصل له الأميركيون ورفضه حلفاؤهم هو أفضل الممكن، وحقيقة أنّ بديله الوحيد هو الجحيم، وحقيقة أنّ مسايرة واشنطن حلفاءها باختبار اللجوء إلى التصعيد لم يخرج بنتائجه عن توقعاتهم التي أبلغوها للحلفاء مسبقاً أنه سيجلب المزيد من التصعيد، وبالتالي إلى أين؟
– لا يبدو أنّ الروس والأميركيين يقتربون بفعل ذلك من الخروج إلى العالم للقول إنّ العودة للتفاهم لا تزال الوصفة الأقرب والأفضل، وقد يفعلون ذلك قريباً وقد لا يفعلون. وقد ينتظر الأميركيون صراخ حلفائهم واستغاثتهم. وقد يسبق الجيش السوري بحركته الميدانية بطء النقلات السياسية، لكن فجأة وقبل حدوث أيّ من كلّ ذلك يخرج المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، ويعلن مبادرة فجائعية بلغتها الإنسانية حول شرق حلب، استرعت تذكيراً من وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، بالقول، لماذا لم نسمعكم عندما شنّت النصرة هجومها على الراموسة مهدّدة بمحاصرة غرب حلب وفيه ضعف سكان شرق حلب؟ لكن المهمّ أنّ دي ميستورا بعد البكاء قدّم مشروعاً تضمّن في مقدّماته الكثير من الأكاذيب والكثير من الحقائق المهمة. وهو لا يمكن أن يقول ما قاله في الوقائع والمقترحات إلا برضا، وربما بطلب من الأميركيين، فماذا قال دي ميستورا؟
– للمرة الأولى نسمع اعترافاً صريحاً بأنّ النصرة موجودة في شرق حلب، وأنها كانت تمثل نصف الجسم المسلح، وأنّ نصف قوتها خرج مع معارك الراموسة وبقي النصف. والأهمّ هنا بالمبادرة، فدي ميستورا يقول إنّ الحلّ لوقف النار، ليس أن يوقف الجيش السوري وحليفه الروسي غاراتهما وطلعاتهما الجوية لأسبوع متواصل لطمأنة الفصائل المعارضة وتهيئتها نفسياً لقبول الفصل مع النصرة، كما قال كيري ودي ميستورا في اجتماع لمجلس الأمن وساندهما الفرنسيون والبريطانيون، بل الحلّ لوقف النار وفقاً لدي ميستورا، ومن ورائه الأميركيون، هو ما سبق وقاله لافروف، أن تتولى واشنطن والأمم المتحدة فك المعارضة عن النصرة، فيتقدّم دي ميستورا بالتطوّع للمخاطرة بـ «حياته»، لمرافقة ألف من عناصر النصرة يتواجدون شرق حلب، ليتمّ وقف النار وإدخال القوافل الإغاثية.
– إن دققنا بهدوء بعرض دي ميستورا، وجدنا أنه يقدّم آلية عملانية لتحقيق الهدف الذي أصرّ الروس ويصرّون على اعتباره شرطاً لكلّ تهدئة وهدنة ووقف نار، وتفاهمات وعملية سياسية، وهو فصل النصرة عن سائر الجماعات المراد إشراكها بالهدنة والتهدئة والعملية السياسية، ودي ميستورا ومَن معه ومن خلفه يعلمون ما كانوا يعلمونه من قبل وبسببه عطّلوا التفاهمات، وهو أنه متى خرجت النصرة سقطت قدرة القتال لدى ما تبقى. وهذه وصفة يقولها دي ميستورا عملياً، وليس الروس ولا السوريون، أنّ الطريق لتحقيق هذا الفصل بين النصرة وسائر الجماعات، ليس بالاعتماد على دور سياسي لواشنطن وسواها، بل بذهاب موسكو ودمشق إلى الضغط العسكري الجدي والنوعي والشديد على مناطق التواجد العسكري للنصرة والجماعات المسلحة، وتحمّل الضغوط الإعلامية والتصعيد الدبلوماسي والردّ على التهديد بالتهديد، حتى يأتي دي ميستورا ويصطحب أصدقاءه في النصرة إلى خارج هذه المنطقة، وهكذا من منطقة إلى منطقة، حتى تتحقق مضامين التفاهم الذي علّق الأميركيون تنفيذه، لكنهم ينفذونه على أيدي مبعوثهم صديق النصرة.