سيادة الدولة السورية في القانون الدولي والسياسة الدولية
د. جورج جبور
أولاً: في التعرف الأولي على تعابير سيادة الدولة والقانون الدولي والسياسة الدولية.
ثانياً: سيادة الدولة السورية في القانون الدولي.
ثالثاً: سيادة الدولة السورية في السياسة الدولية.
رابعاً: مسألتان مثارتان في موضوع سيادة الدولة السورية: الفدرلة ومراقبة الانتخابات.
خامساً: كلمات ختامية.
في التعرف الأولي إلى تعابير سيادة الدولة والقانون الدولي والسياسة الدولية:
تثير كلمة «سيادة الدولة» إشكاليات عديدة في القانون والسياسة. واذا كان معظم مؤرخي الفكر السياسي الغربي ينسبون فكرة سيادة الدولة الى الفرنسي جان بودان أواخر القرن السادس عشر، فانّ الفكرة لم تكن غائبة قبل بودان. في المتداول عن صلح الحديبية مثلاً ما يصحّ اعتباره إشارات الى مبدأ سيادة دولة النبوة في المدينة بمواجهة دولة الشرك المناوئة في مكة. والحق انّ فكرة السيادة من مستلزمات فكرة الدولة، إذ لا يمكن ان نطلق صفة دولة على كيان انْ لم تكن لذلك الكيان سيادة. الدولة فعل قوة جبرية، والسيادة كلمة أليَن من كلمة قوة، لا تثير في الناس من النفور قدر ما تثيره فيهم كلمة قوة.
حين نقول انّ السيادة في جوهرها هي القوة، فليس في ذلك القول ما يطمئن، رغم ما توحي به، من طمأنة، أحياناً، حذلقة الاستشهاد بمواد من ميثاق الأمم المتحدة. عالمنا هوبسي دارويني بامتياز، وتستمرّ مع ذلك المحاولات لعقلنته والحق انّ تعبيرَي القانون الدولي والسياسة الدولية واضحا الدلالة في الصميم، غامضاها في التخوم. يفترض تعبير القانون الدولي انه سيد بين الدول، إلا انه في جوهره تجسيد للسياسة الدولية في الوقت الذي صيغ فيه القانون. أما السياسة الدولية الصانعة للتنظيم الدولي الذي يشرع القانون، فلها ايضاً قانونها الذي نعرفه باسم شريعة الغاب.
وتستمرّ المحاولات من أجل عقلنة شريعة الغاب وقوننتها وانسنتها. ويكتب لها نجاح لا بأس به، رغم محدوديته. والواجب العام المتعارف عليه، وأؤيده، إنما قوامه الاستمرار في المحاولات.
تلكم خلاصات لما يتضمّنه العنوان، ونبقي في الحسبان انّ الاختزال إخلال، والبحث في ما سبق يطول من جهة، ولا مرجعية حاسمة له من جهة ثانية.
سيادة الدولة السورية في القانون الدولي
كلّ دولة تنضمّ إلى تنظيم دولي، تقبل، بمجرد انضمامها، حدوداً على سيادتها. واذا كانت عصبة الأمم قد تبنّت مبدأ الإجماع في اتخاذ القرارات، فإن منظمة الأمم المتحدة تبنّت مبدأ اتخاذ القرارات والتوصيات بالأغلبية. ولا ريب انّ اتخاذ القرارات والتوصيات بالأغلبية يتضمّن مستوى من احترام السيادة أدنى من مستوى احترام الإجماع للسيادة.
في ميثاق الأمم المتحدة اذن ثمة انتقاص من السيادة، ولكن هذا الانتقاص لا يميّز بين الدول. الدول، بحسب الميثاق، متساوية في السيادة، ولكن سيادتها ليست مطلقة.
ولننظر في بعض نصوص مفتاحية.
في مقدمة الميثاق يرد النص التالي: «نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على انفسنا… أن نؤكد من جديد إيماننا بالحقوق الأساسية… للأمم كبيرها وصغيرها بما لها من حقوق متساوية…»
وفي المادة الأولى الخاصة بمقاصد المنظمة، ينص المقصد الثاني على: «إنماء العلاقات الودية بين الأمم على أساس احترام المبدأ الذي يقضي بالمساواة في الحقوق بين الشعوب…»
أما المادة الثانية الخاصة بمبادئ المنظمة فمؤلفة من سبع فقرات تهمّنا منها الفقرتان الأولى والاخيرة ونصهما كما يلي:
1» – تقوم المنظمة على مبدأ المساواة في السيادة بين جميع أعضائها».
ويكتمل هذا النص بما تنص عليه الفقرة السابعة:
«7 – ليس في هذا الميثاق ما يسوغ للأمم المتحدة ان تتدخل في الشؤون التي تكون من صميم السلطان الداخلي لدولة ما، وليس فيه ما يقتضي الأعضاء ان يعرضوا مثل هذه المسائل لأن تحلّ بحكم هذا الميثاق، على انّ هذا المبدأ لا يخلّ بتطبيق تدابير القمع الواردة في الفصل ويكتمل السابع».
ولا بأس من استكمال الاستشهاد عن التساوي في السيادة بما نصت عليه «مادة سورية» في الميثاق، وهي التي تحمل رقم 78:
«لا يطبق نظام الوصاية على الأقاليم التي أصبحت أعضاء في منظمة الأمم المتحدة، اذ العلاقات بين أعضاء المنظمة يجب ان تقوم على احترام مبدأ المساواة في السيادة».
ومما توسعت في شرحه خلال العقود الأربعة الماضية انّ هذه المادة انما كتبت بدماء شهداء العدوان الفرنسي على مبنى مجلس النواب السوري في 29 أيار 1945. الا انّ كتب القانون الدولي عندنا ما زالت تتجاهل هذه الحقيقة المثبتة في سجل سوري رسمي هو محاضر المجلس النيابي. لماذا تتجاهل كتبنا هذه الحقيقة؟ لأننا نأخذ علم القانون الدولي من المصادر الأجنبية التي لا تحفل بما نقوم به نحن من إبداع.
الدولة السورية عضو مؤسّس في منظمة الأمم المتحدة، ولم تتعرّض عضويتها فيها لأيّ اعتراض كالذي تعرّضت له عضويتها في جامعة الدول العربية وفي منظمة التعاون الاسلامي. في 11/1/2013 طالب الائتلاف المعارض بتسليمه مقعدي سورية في الأمم المتحدة وفي جامعة الدول العربية. لم يترك هذا الطلب أثراً في الامم المتحدة. أما في الجامعة، فقد شغل معارض مكان الرئيس السوري في قمة الدوحة آذار 2013 . تمّ ذلك لمرة واحدة، ثم عادت الجامعة الى بعض الرشد. فرغم تكرار المطالبات، أصرّت الجامعة على رفض تسليم مقعد سورية الى الائتلاف. بمقتضى هذا الواقع فسيادة الدولة السورية مساوية لسيادات غيرها من الدول الأعضاء، بمقتضى القانون الدولي الذي هو هنا ميثاق الأمم المتحدة. وليس ثمة ايّ مجال للنقاش في انّ من حقها ان تفرض سيطرتها على كلّ جزء من بقعتها الجغرافية.
سيادة الدولة السورية في السياسة الدولية
في السياسة الدولية يتصارع الكلّ مع الكلّ، بحسب التعبير الهوبسي. ويتمكن الأقوى او الأصلح او المتأقلم، يتمكن من البقاء على حساب الأضعف، حسب التعبير الدارويني. الغلبة للأقوى في السياسة الدولية، وكثيراً ما تنتج هذه الغلبة حقوقاً للقوي على حساب الضعيف، خلافاً للأخلاق وللقانون. حدود معظم دول العالم هي الخطوط التي وصلت اليها الجيوش. في السياسة الدولية لشريعة الغاب السيادة.
وكان لسورية نصيبها الكبير من عسف السياسة الدولية. قبل مائة عام عقدت اتفاقية سايكس بيكو. وحين أعلنا في دمشق، ذات يوم في آذار عام 1920، قيام الدولة العربية السورية، كنا نتحدّى اتفاقية سايكس بيكو، وانتشينا بذلك التحدي. الا اننا لم نملك مقومات فرض التحدي. انتصرت السياسة الدولية على إرادة الشعب. انتهى الكيان السياسي الواقعي – المتخيّل معاً، وهو بلاد الشام او سورية الطبيعية، لتحلّ محله كيانات سورية متقطعة ابتُلي احدها باستعمار استيطاني. وأعطي هذا الاستعمار الاستيطاني «مشروعية» دولية مزدوجة. مرة بإرادة سادة السياسة الدولية، إرادة تجسدت بوعد بلفور عام 1917. ومرة ثانية بمشروعية غير شرعية في القانون الدولي هي صك الانتداب على فلسطين عام 1922، وقد تضمّن بنود وعد بلفور.
ثم كانت للسياسة الدولية جولة ظلم جديدة على ما تبقى لنا من سورية، فانتزع منا لواء اسكندرون. جاء انتزاعه في أجواء مساومات داخلية في أعقاب مشروع معاهدة 1936، وفي أجواء مساومات خارجية مهّدت لتوازنات جديدة قبيل الحرب العالمية الثانية، واستعداداً لها.
ولم تكفّ السياسة الدولية عن النيل منا بعد نجاحنا في بلوغ الاستقلال الكامل بجلاء الجيوش الاجنبية عنا. قامت «إسرائيل» باحتلال جولاننا الحبيب في عام 1967، و ما تزال ترفض تنفيذ قرارات الأمم المتحدة القاضية بالانسحاب. وحين استطعنا تحرير الإرادة العربية، فكانت حرب تشرين المجيدة عام 1973، ترتب على ما جرى تقليص للسيادة السورية بمقتضى اتفاقية فصل القوات عام 1974، وهو تقليص ارتضيناه ثمناً لتحرير مدينة القنيطرة. ومن المفيد هنا الإشارة الى أنني عالجت جوانب من هذا الموضوع في صفحات نشرتها مجلة المستقبل العربي ايلول 2015 ، التي تصدر عن مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، تحت عنوان: «جولة في السياسة والفكر والتاريخ مع كتاب فاروق الشرع: الرواية المفقودة، وكتاب بثينة شعبان: عشر سنوات مع الرئيس حافظ الأسد».
إلا انّ عدوان السياسة الدولية الأعتى على سيادة الدولة السورية هو ذلك الذي ابتدأ في عام 2011، ولما ينته بعد. لن أخوض هنا في أسباب ما جرى، البعيدة والقريبة، غير المباشرة والمباشرة، الا انّ احداً لن يصدق من يقول بأنّ التخطيط الخارجي لم يكن سابقاً ومواكباً لما جرى، ونافخاً فيه. كانت للحكم أخطاء تحدث عنها مسؤولونا مرات بجرأة وصدق وصراحة، إلا انّ العدوان تجاوز بكثير تلك الأخطاء. وكان من الممكن لهذا العدوان، وهو صنيعة عشرات الدول، والأبرز منها دولة جوار ودول عربية، كان من الممكن له ان ينهي كيان الدولة السورية، لولا شجاعة الجيش العربي السوري. فلحماة ديارنا تحية تقدير واحترام.
لن أعدد الخروقات التي تتعرّض لها سيادة الدولة السورية، ولن ألوم الأجهزة السيادية السياسية في الأمم المتحدة، وأقصد بها مجلس الأمن والجمعية العامة، لعدم تصدّيها للعدوان على النحو الذي يستحق. ليست المنظمة الدولية منظمة عدالة كما يتوهّم معظم من لم يقفوا أنفسهم بثقافة الميثاق. هي منظمة سياسية تسيطر عليها السياسة الدولية. قلت إنني لا ألوم الأجهزة السيادية السياسية للأمم المتحدة. انني ألوم القيّمين على عمل المنظمة اليومي وعلى رأسهم الأمين العام. الدور الأساس للأمين العام إداري، كما يقول الميثاق. إلا انّ للأمين العام دوراً قيادياً في السياسة وانْ لم يرد به نص صريح. انتزع الأمين العام الثاني، داغ همرشولد، لقب «الفاعل الثالث في السياسة الدولية»، ايّ انه أبلغ الأمانة العامة من النفوذ الدولي حداً لا يتفوّق عليها فيه الا رئيسا الاتحاد السوفياتي آنذاك والولايات المتحدة. لن أتحدث عن سجل الأمين العام الحالي وهو يتأهّب للرحيل. الا انني لا أصدق انه لم يكن بمقدوره إشغال العالم ببيان صادر عنه كقيادي دولي يدين فيه التوغل العسكري التركي العدواني في الأراضي السورية. من أجل إدخال السياسة الدولية الى كعبة القانون الدولي، تتطلب الأمم المتحدة أميناً عاماً، بل رئيساً رسولياً، يطمح الى قيادة العالم باسم الميثاق.
الفدرلة ومراقبة الانتخابات
تتعدّد المسائل التي يتضمّنها في الوقت الراهن موضوع سيادة الدولة السورية. ثمة مثلاً مسألة كبرى هي مسألة المكان القانوني للمعارضة. ففي الوقت الذي تمنع فيه المادة 2/7 من الميثاق التدخل في الشؤون الداخلية للدول، تنص إحدى الفقرات الديباجية للقرار 2254 – ونحن في «حقبة» التداول المستمرّ في كيفية تنفيذه، وهي حقبة ستطول -، تنص إحدى الفقرات على انّ مجلس الأمن محاط علماً باجتماعات للمعارضة عقدت في موسكو والقاهرة والرياض. أصبح لهذه المعارضات وضع من الواجب العمل على إيضاح مرتكزاته القانونية، ولن نقدم هنا على هذا الأمر. تتعدّد المسائل وتتعدّد معها التخريجات القانونية وحذلقاتها، ولكننا لسنا بصدد حصر هذه المسائل، وبعضها يدخل في نطاق المماحكات غير ذات الجدوى. يهمّني هنا التوقف عند مسألتين هما الفدرلة ومراقبة الانتخابات. وللمسألتين وجود مفتاحي في الوضع السوري.
فأما الفدرالية فقد أثيرت مسألتها مرات عديدة ولا سيما في وسائل الإعلام. لا يستحق الكثير من التعويل ما يتمّ تداوله في الخارج. الا انّ أهمّ الإثارات هو ما أتى من الداخل السوري بالذات، وبهذا أشير الى ما نشرته إحدى الهيئات الكردية السورية في أواسط عام 2016 علينا تدقيق التاريخ . منذئذ جرى تداول صريح لأسئلة من نوع: ما تعريف الفدرالية؟ هل هي نوع واحد او أنواع؟ ما علاقة الفدرالية بالسيادة؟ هل تتوافق معها ام تخلّ بها؟ كم عدد الفدراليات التي ستؤسّس؟ هل يقتصر الكيان المفدرل على اثنية واحدة؟ وبالطبع تعدّدت الإجابات وتتعدّد وستستمرّ، ولن يكون لها – في تقديري – أيّ جدوى. ذلك أنّ من الثابت انّ كلمة فدرالية لا تلقى صدى حسناً لدى غالبية السوريين، ولدى كلّ الهيئات الفاعلة في الشأن العام السوري، باستثناء واحد هو الهيئة التي أطلقت الدعوة اليها. اكتسبت الكلمة العداء لها من تجربة العراق الذي لا يبدو للمراقب، بشكله الحالي، موحداً بما فيه الكفاية. كذلك فمن الثابت انّ فدرلة سورية لن تتوقف عند حدود الدولة السورية. فدرلة سورية تهدّد تركيبة المنطقة ككلّ. في كلّ حال، كان لإطلاق دعوة الفدرلة أثر مفيد لصالح توطيد مفهوم سيادة الدولة السورية ووحدتها. ثم انّ معنى الفدرالية عملياً توسيع صلاحيات الإدارة المحلية، وهذا أمر موضع إجماع، ولا يماري به أحد.
أخذ بحث مسألة الفدرلة حيّزاً محدوداً لأنه أمر شبه محسوم. المسألة الثانية التي أتوقف عندها الآن، وهي مسألة مراقبة الانتخابات، يتطلب البحث فيها حيّزاً أوسع.. رأى السيد رئيس الجمهورية، في إحدى إجاباته عن أسئلة إعلامية، انّ المراقبة الدولية للانتخابات السورية، رئاسية او تشريعية، إخلال بالسيادة. من الممكن الموافقة على هذا الرأي. الا انّ من الممكن إضافة عناصر من التاريخ والواقع قد تنال من نفع هذا الرأي عملياً. فمن تاريخ الدولة السورية نعلم انّ عمليات الانتخابات التشريعية، التنافسية حقاً، انما هي تلك التي جرت بين عامي 1928 و1954. منذئذ لم تعرف سورية انتخابات تشريعية لم تكن نتيجة الفوز فيها معروفة سلفاً وبأغلبيات كبيرة. بل وأضيف تفصيلاً دقيقاً: في الفترة بين جلاء الأجنبي وبين قيام الوحدة ذهب السوريون الى الانتخابات التشريعية التنافسية الحقيقية مرتين، في عام 1947 وفي عام 1954. هنا استبعد سلفاً انتخابات عام 1953 في عهد الرئيس الشيشكلي. عرف مجلس نواب 1947، لدى كثيرين، بأنه المجلس المزوّر، أيّ المزور لصالح التجديد للرئيس القوتلي، وقد حصل. عدل المجلس الدستور، وجدّد ولاية الرئيس في عام 1948، ثم، بعد أقلّ من عام، كان انقلاب حسني الزعيم. الانتخابات التشريعية الوحيدة التنافسية النزيهة التي عرفها السوريون، وكانت غالبيتهم راضية عنها، وما يزالون يتذكرونها بتعاطف ومحبة، بما في ذلك الحزب الذي اتى ترتيبه ثالثاً فيها وهو الحزب الوطني، هي تلك التي جرت عام 1954. أجرت الانتخابات حكومة حيادية اتفقت الأحزاب والقوى السياسية على تشكيلها. كان أعضاء الوزارة الستة من الحقوقيين، وأغلبهم من القضاة.، بل ربما انه كانت لجميعهم خبرة قضائية. ولنتذكر انه كانت لحزب البعث العربي، في سنوات خلت، سابقة الدعوة الى حكومة قضاة تشرف على الانتخابات. في تلك الوزارة عام 1954 تولى وزارة الداخلية، وهي المشرفة مباشرة على الانتخابات، قاض هو الاستاذ اسماعيل القولي، الذي اشتهر باستقلاليته ايام حكم الشيشكلي، اذ كانت له مواقف لم يكن الحكم راضياً عنها. كانت المراقبة على العملية الانتخابية ذاتية وناجحة معاً. حاولت تشريعاتنا الجديدة – وقد أتت بفضل الأحداث – استعارة ملامح من تجربة وزارة القضاة والحقوقيين التي عرفناها عام 1954، لدينا اليوم هيئة انتخابات رئيسها قاض وكبار مسؤوليها قضاة. الا انّ ظروفا كثيرة لا تسمح لنا، منذ عقود، بالإشارة بالبنان الى شخص بعينه، الى قاض بعينه، على انه مستقلّ نزيه فوق الشبهات. من هذه الظروف ما هو خارج المؤسسة القضائية. الا انّ المؤسسة القضائية نفسها تعاني من خلل ذاتي قمت بتوثيق البرهنة عليه في كراس متاح في المكتبات عنوانه: في ثقافة حقوق المؤلف: القرار 3379 – نصان واجتهادان دمشق، دار حوران، 2012 . وجهت في الكراس دعوة الى وزارة العدل لتقديم اعتذار عما ارتكبه عدد من قضاتها في موضوع يختص بحقوق المؤلف. ثم انني، وقت كتابة هذه الورقة، وقعت على خبر صحافي مثير في جريدة الوطن 29/9/ 2016 مؤداه انّ عناصر من موظفي الجمارك – وهم شريحة كثيراً ما يربط الناس بينها وبين الفساد – يردّون عنهم تهمة الفساد ويوجهونها الى القضاة. يؤلمني ذكر هذه الأمور، أنا الذي شرفت بانتسابي الى سلك القضاء معاوناً للنيابة العامة في اللاذقية، خريف عام 1960.
ولنعد الى ما جرى بعد انتخابات 1954 التي يحلو الحديث عن صدقها في التعبير عن إرادة الشعب، والتي أرجو ان نوفق الى إجراء انتخابات تماثلها في النزاهة. لم تكن ممتعة رحلتنا مع الديمقراطية بعد تلك الانتخابات. بعد أقلّ من عام كان اغتيال العقيد عدنان المالكي بعملية متعدّدة الآباء، كما يُقال اليوم، وبعضهم كان في السلطة، بحسب ما يقول وزير دفاع أسبق. اثر ذلك الاغتيال البشع، كانت لنا ممارسات لا تنسجم دائماً مع أجواء تفاؤلنا بالقيم الديمقراطية التي بلورتها فينا وزارة النزاهة. عصفت بنا رياح السياسة الدولية، وكانت لنا مواقف تصدّ مشرفة. لكن التجربة الديمقراطية التي أنتجها مجلس النواب لم تدم طويلاً. كانت تجربة أفضل من أية تجربة سابقة او لاحقة، إلا انها لم تدم طويلاً. فبفعل أثر السياسة الدولية على الوضع الداخلي السوري، المقترن بحماسة سورية تاريخية لفكرة الوحدة العربية، أبدعنا الوحدة السورية – المصرية التي، بدورها، لم تدم طويلاً. وينسب كثيرون قصر حياتها الى صعوبات في تفاعل حكم الوحدة مع الناس. وأتى حكم الانفصال والعبرة المستخلصة منه مستعادة: تجربتنا في الممارسة الديمقراطية هشة لا تبعث على الاطمئنان. أكتفي بهذ القدر من السرد السياسي الذي لم يعاصره كثيرون في هذه القاعة. أما العقود الخمسة الأخيرة فهي موضع علم عام. فلأعد الى المسألة المثارة: المراقبة الانتخابية. ولأختصر رأيي في أسطر قليلة أردتها متوازنة لا تخفي موقفاً.
كيف نتعرّف على رأي السوريين في أسلوب الحكم الذي يريدونه، وفي القيادات التي يرغبون في تسليمها امورهم؟ ليست الإجابة سهلة، الا انّ الانتخابات هي الأسلوب الطبيعي. فإذا علّمنا تاريخنا انّ من يجري الانتخابات هو الطرف الذي يفوز بها، فمعنى ذلك اننا نكرّر تجربة ثبت عدم قدرتها على مجابهة أحابيل السياسة الدولية، تلك الأحابيل التي تعتمد على صعوبات داخلية لتنسج عدواناً، او تتذرّع بالصعوبات لتحاول تبرير عدوان مبيّت. وهكذا فإذا اقتضى التعرّف على رأي السوريين، إجراء انتخابات تقرّ نتائجها مراقبة دولية، فإنّ الكلفة على السيادة السورية ستكون، في الأرجح، أقلّ من الكلفة التي تحمّلتها السيادة السورية نتيجة أحداث السنوات الماضية. وتبقى المراقبة الدولية صعبة التقبّل ومحوطة بالصعوبات. ويبقى من واجب فكرنا السياسي، رغم ذلك، التأقلم مع موضوع لا يصحّ ان نبتعد عنه غريزياً بحجة انه مناف للسيادة.
كلمات ختامية
أهداني مفكر سياسي أميركي لدى زيارته سورية، قبل نحو من نصف قرن، كتاباً له عنوانه: «أصحاب السيادة الجدد». الجدد من أصحاب السيادة هم، عند مفكرنا ذي المنشأ السوري، الشركات العابرة للقارات. شركات كثيرة أقوى من الدول، بل يقود بعضها أهمّ الدول. وسيادة الشركات الى ازدياد في وقت تتجه فيه سيادة الدولة الى انحسار. وآخر ما نشهده هذه الأيام من انحسار سيادة الدولة هو ما أتانا به الكونغرس الاميركي من إبطال مبدأ «الحصانة السيادية».
ويبقى مبدأ احترام سيادة الدولة، مع ذلك، مبدأ مجمعاً عليه قانونياً. انه مبدأ اساس في ميثاق الأمم المتحدة. ويبقى تمسكنا بسيادة دولتنا السورية التزاماً يومياً يتمتع بالأولوية الأولى. وعلينا دائماً ألا نغفل عن حقيقة هامة وهي انّ أمنع الدول سيادة هي تلك الدولة التي يحصّن سيادتها اتفاق مواطنيها.
ورقة بحثية قدّمت في ندوة عن السيادة السورية في قاعة المحاضرات في قصر العدل بدمشق، الأحد 9 تشرين الأول 2016.
صاحب الورقة هو رئيس جمعية العلوم السياسية في سورية قيد التأسيس ورئيس الرابطة السورية للأمم المتحدة، وسابقاً مستشار رئاسي، وعضو مجلس الشعب، وخبير مستقلّ لدى مجلس حقوق الإنسان في الأمم المتحدة، وأستاذ ورئيس قسم السياسة في معهد البحوث والدراسات العربية في القاهرة، وأستاذ محاضر في الدراسات العليا بجامعتي دمشق وحلب، ويعبّر البحث عن رأيه الشخصي.