ماذا يعني أن ننتصر اليوم للحسين؟

العلامة الشيخ عفيف النابلسي

في ذكرى الإمام الحسين ترتدي الأمة أثواب الحداد، لكن، لا الحداد الانهزامي اليائس الذي يجعل الإنسان بارداً إزاء قضايا المجتمع والدين، بل الحداد الذي يعيش فيه الإنسان إنسانيته الكاملة فتتحرك فيه مشاعر الحزن النبيل والدمع الشجي على كلّ مظلوم أو فقير أو بائس أو مسكين. وقساة القلب لا يفهمون معنى أن تبكي على مظلوم وتتألّم لجائع أو عطشان أو مشرّد. لا يفهمون لماذا يرقّ قلبك على يتيم ولماذا تتفطّر لمرأة سبيّة ولماذا تندب على إمام داسته حوافر الخيول وهو مقطّع الأشلاء على رمضاء كربلاء. يظنّون أنّ القضية أننا نحب البكاء للبكاء وأننا لا نعرف في حياتنا طريقة للعيش إلا ما يقوم على استحضار المآسي والفواجع. أبداً. إنّ الإنسان الحسيني هو الذي يعيش الحياة بكلّ أبعادها وينظر إلى المظلومية بعين الرأفة والرحمة والشفقة، كما ينظر إلى مساحات الحياة الأخرى بعين البصيرة والحكمة أو السعادة والفرح. الحسين عليه السلام يحرّك فينا الحب والودّ، كما يحرّك فينا الحماسة والحميّة. يحرّك فينا قوة الأمل في وسط سواد الظروف. يحرّك فينا العزة عندما تكون النفوس خائفة خانعة. يحرّك فينا الشجاعة والإقدام ولو كنا قلة بلا إمكانات مادية وبشرية. كربلاء آية تاريخية تزداد إشراقاً كلما انكشفت حقيقتها وبان جوهرها. فمن يحيي هذه المناسبة لا يقصد إلا إشاعة الحب والسلام والرحمة وإماتة الباطل والجهل ولو تغلّف بألف ألف زيّ ديني.

كربلاء كلمة حب في وجه الكراهية. كلمة انفتاح في وجه العصبية. كلمة تضحية في وجه الأنانية. كلمة صلاح في وجه المنكر. كلمة هدى في وجه البغي.

مَن يخَف من هذه المناسبة يخَف القيم التي حملها الإمام الحسين، ومن يفهمها فلا يجد في نفسه حرجاً بل وسيلة رائعة لنقلها إلى كلّ الأمم التي تطلب الحق وتنادي بالعدل وتتطلع إلى الكرامة الإنسانية بأبعادها المادية والمعنوية. عاشوراء حالة معرفية وثورية لأنها تبتغي نشر الوعي بين الناس بالحقوق والواجبات والمبادئ والتعاليم الإلهية والقيم الأخلاقية، وأيضاً تهدف إلى تنضيج البعد التغييري والتحريري داخل المجتمعات وتدعيم الجهد التعبوي في مواجهة قوى الظلام والاستعمار والاستغلال التي تريد السيطرة والهيمنة على مقدرات وثروات الشعوب.

ونحن عندما نتذكّر أقوال الحسين نتقوّى، ونتحوّل إلى تربة وأرض تستند إليها أعمدة الحق فلا نعود نأبه لحجم الضغوط والتحديات أو سواء وقعنا على الموت أم وقع الموت علينا.

ولا شك في أنّ ثورة الحسين تأخذنا لنتأمّل في واقع المسلمين اليوم وأحوالهم البائسة وأن نتخذ موقفاً من الطغيان الذي تصنعه الإدارة الأميركية على مستوى العالم وحكام «إسرائيل» والسعودية على مستوى المنطقة. لقد وصل الخراب الأخلاقي والسياسي والاجتماعي إلى كلّ بيت في بلداننا وما عاد بالإمكان السكوت على المجازر التي ترتكب من فلسطين إلى سورية فاليمن. الصمت اليوم على جرائم أميركا و«إسرائيل» وآل سعود هو صمت منكر. صمت الجبناء. صمت المتخاذلين صمت الذين يرضون بقتل الحسين مرات ومرات. أن يكون المرء مع الحسين هو أن لا يُعفي دمه من السقوط في سبيل الله. هو أن لا يحيّد دمه من معادلة الصراع مع طواغيت العصر. هو أن لا ينظر ببرودة إلى المجازر ويقول ماذا عليّ أن أفعل. بلى، كلّ واحد يستطيع أن يكون حسينياً مقاوماً يواجه العدوان على الإنسان.

نحن في لحظة مواجهة شاملة. ومَن لم يحدد خياراته بعد فليحدّد. الانتصار للحسين لا يكون إلا بالبذل والفداء والتضحية.

هذا العالم ينتظر الحسينيين، فلنكن نحن منهم لنغيّر واقع الحياة نحو السلام وواقع البشرية نحو الحق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى