الممكن المستحيل…!

ثائر أحمد إبراهيم

الطوباويون الذين يرتكزون إلى معرفتهم بالماضي لبناء مشهد المستقبل وبعكس ما يُتهمون به من كونهم خياليّين منفصلين عن الواقع، يعلمون تماماً أنه لا وجودَ لحلمٍ مبتكرٍ، وأنّ الحياة سيرورة تعتمد التطور أكثر من الابتكار، هذه حقيقةٌ أثبتها العلم بتجارب الواقع.

الطوباويون يدركون حقيقة الممكنِ الكائنة في أنه لا مستحيل تحت السماءِ فيحرضون على تحقيقه، لكنهم شريحة أعجزها المتمكّنُ المسيطرُ على الممكن من تحقيق الحلم بافتقاد إرادة استخدام الأداة المناسبة لذلك.

إنهم يدركون الفرق بين الممكن وبين المتمكّن، ويدركون أنّ الممكن المتمثل برؤية مستقبلية يعطل تحقيقه المتمكّن المدير لدفة المسيرة الساعية إلى إنجاز الحالة.

تلك هي فلسفة العجز والفساد المتداخلة مع إرادة الخير في القتال وعدم رغبته في استخدام أدوات الشرّ ذاتها للدفاع عن الحلم.

تلك قصة أمةٍ سَرقَ متمكّنها ممكنها وأحاله مستحيلا.

أحدثكم عن أمة يعرب التي تجاوزت طوباويتها كلّ طوباويات شعوب العالم الأخرى، لا لأنها الأكثر خيالية وخصوبة بل لأنها الأكثر تعثراً عن تحقيق ممكنها عبر تاريخ وجودها، بحيث غدا ممكنها وعلى بساطته رابع المستحيلات.

النبت الطيب لا يؤتي أكله ما لم يزرع في أرض طيبة، هكذا كانت الأمة أرضاً طاهرة خصبة صالحة للغراس الرحمانية اصطفاها القدير مهبطاً للديانات جميعاً وميّزها عن باقي الأمم، وخلق من جذورها إنسانها المحامي عن سيادتها المقاتل في سبيل استمرارها.

إنه حديث لا علاقة له بالتعصّب لنطاق جغرافي حوى عرقاً بشرياً خاصاً، بل هي الفطرة المجبولة بقدر كبير من المعرفة ويقين الانتماء إلى تراب ضمّ أجداث الأجداد، ذكرياتهم، تاريخهم، آلامهم، أفراحهم، أنفاسهم، وبالوفاء والعرفان لهذا التراب الذي أعطى بغير حساب من خيره وخيراته للقاطنين فوقه.

التاريخ يخبر أنّ الأمة تميّزت بمقدراتها البشرية والطبيعية، ما جعل منها نهباً لكلّ شذاذ آفاق وهدفاً للانقضاض من الساعين إلى استعباد البشرية.

وبأنها أمة برغم ملماتها، تحاملت على جراحاتها ونهضت من كبواتها لتواكب ركب الحضارة الإنسانية دائماً معتمدة اعتقادها بأنّ الإنسان هو غاية الحياة.

أما الطوباوية فتخبر أن الأمة ما بدّلت عقيدتها المرتبطة باقتناعها بحرية الإنسان، غير أنّ الحرية التي كانت بالنسبة إلى شعوب العالم قاطبة قدرة تبني الحضارة وسبيلاً للتطوير وكشف العثرات، كانت عند أمتنا سبيلاً للجنون والغرائزية والتفلّت، إنها الممكن عند الآخرين والمستحيل والحلم الضائع عند أمة يعرب.

فلنكن منصفين ونعترف أنّ الإطلاق في مراحل تاريخية متعاقبة أودى بالحرية إلى غير طريقها القويــم فتحوّل الحـق إلى باطل، وصار الطموح طمعاً وانقلبت الحرية إلى فوضى.

بيد أن الواجب والضرورة كانا في أن يتكلم الجميع بلا مواربة ولا تحايل عن الممكن وعن غير الممكن، و كان الحق في أن يتوحدوا على تحديد ماهية الممكن ليتمكنوا من تبني أحد خيارين عند التعامل مع المتطلبات الطوباوية لتحقيق الحرية:

فإما إطلاق الحريات على غاربها مع قبول خطر إمكانية انفلات الأمور بشكل دائم نحو الفوضى على اعتبار أنّ الإنسان متفلّت بطبعه، وإما تقييد الحريات ضمن أطر معينة مع توقع ما سيجلبه ذلك من تعسّف عند التقييد، وبما قد ينتهي بالرقيب المتمكّن لممارسة قمعٍ متوقعٍ أو تأويلٍ في غير محله اتكاءً على اعتبار أنه لا شيء في الدنيا يمكن أن يترك بغير حدود.

السؤال الملحّ بقي بدون إجابة، ولم يتجرأ أحد على تحمّل تبعات تبنيه، لذا تركت الأمور على إبهامها لتمارس الحرية من قبل المتمكّن متى شاء ممارستها وفق أهوائه، ولتمنع عن الطوباويين الساعين إلى إنجاز ممكنهم لحظة تعارضها مع حرية المتمكّن.

تجاهلَ المتمكّن ومن يلوذ به حقيقةً مفادها أنّ الحرية لا تضيء إلا إذا فقه الفرد حقوق الآخرين واحترمها كلما مارس حقه، وتغافل المتمكّن والمحسوبين عليه عن كونهم أفراداً ضمن بيئة اجتماعية لأفرادها حقوق يجب أن تصان، وبأنه كلما احترمت حريات الأفراد كلما كان المجتمع أكثر انضباطاً ذاتياً.

ولقد ساهم المنظرون في تضليل المجموع عن حقيقة قيمة الفرد التي مفادها أنّ الاحترام يبدأ بقبول المحيط للفرد أو لمجموعة الأفراد وفق المعايير الحقيقية لتقدير قيمة الفرد، لتبدو القيمة مرتبطة بدرجة الاهتمام التي يوليها المجتمع أو الأفراد للفرد الواحد، إنها حاجة الناس لهذا الفرد سواء من قبل حلقةٍ قريبةٍ يعيلها ويفيدها، أو حلقةٍ بعيدةٍ ترى فيه قدوةً أساسياً أو تافهاً هامشيا.

إنها مجمل ما يقدمه شخص إلى تلك الحلقات بغضّ النظر عما سيجنيه شخصياً من مردود مختلف الأشكال، و بهذا يتحوّل الأمر إلى تبادلٍ للمصالح يتباين بين مقدار حاجة المجتمع المنظم المنضبط لهذا الفرد وبين مقدار حاجة الفرد لهذا المجتمع، إنها المساواة في الحقوق ومنع الامتيازات تحت ظلّ القانون، فهل يُعقل أن تكون هذه طوباوية منتقدة؟

اللوذ والاستقواء بالعرق واللون والطائفة والعشيرة تقضي عليه الثقة المطلقة بالتنظيم المجتمعي المتولدة من الإحساس بوجود عدالة قائمة، تلك ثقة أكبر وأفضل وأضمن لمن يفتقد مرجعيات الاستقواء المختلفة البعيدة عن مؤسسات الدولة والمجتمع، فالإنسان الذي يلجأ إلى مؤسسات الوطن يشعر بالطمأنينة أكثر لناحية عدم تحمّل العقبات الأخلاقية الاجتماعية لاعتبار أنّ الدولة لا تملك عواطف عند الاقتصاص من المخطئين بما يجعل طالب الحق قانونياً معذوراً اجتماعياً في ما أقدم عليه، فلا يُلام فرد عند استنصاره بالقانون، في حين أنّ الاستنصار بغير القانون يرتدّ على فاعله ضغينة وحقداً ورغبة بالانتقام، هذه أيضا ليست طوباوية بل هي قواعد البناء التي يؤكدها التاريخ والواقع.

العدالة طوباوية لن تتحقق، طالما أنّ الفساد راخٍ بثقله على المجتمع، لذا كانت محاربة الفساد بتطوير الأدوات الإدارية مع الإحساس العالي بالمسؤولية وحدها من ستجعل الفساد محبطاً ضعيفاً معطلاً.

إنها معركة بين الممكن الطوباوي وبين المتمكّن المعطل، معركة تستجلب المستضعفين والمتنمّرين على حدّ سواء من كلّ حدب وصوب، فإذا ما انتصر الفساد ذهب الناس باتجاه دعمه، وإذا ما انتصر القانون لاذت الناس به.

شرّع القانون لأجل المستضعفين عديمي القدرة على حماية حقوقهم، فالغني وابن العشيرة والزعامة محميّ بالعزوة بعكس الضعيف الوحيد، وليس أظلم من أن يجد الضعيف نفسه مكسر عصا في كلّ حراكن يلوذ بمن يحس أنه ملجأ لها إلى عندما يفقد الأمان ممن هو موكل بحميايته ومن هنا فإن إعادة الثقة بمؤسسات الوطن أهم بكثرير من .

هذا أمر خطير جداً، فالظلم هو الأساس والعلة التي تدفع الفرد إلى التمرّد على المجتمع ليتحوّل إلى عالة عليه ونقطة ضعف فيه بدلاً من أن يكون مصدر قوة له، هذه ليست طوباوية يا سادتي هذا حق وضرورة.

وحتى يحسّ الفرد بوجوده ويلغي من خياله فكرة العزل والانعزال، لا بدّ من إعطائه فرصة إيجاد ذاته، وتلك لا تكون إلا إذا حظي الفرد بالعمل الذي يجيده والذي يضمن مردوداً نافعاً له يساعده في البقاء ومن ثم في التطور.

هذه أشياء لا يوضع ميزانها إلا بتحقيق تكافؤ عادل لفرص إثبات الوجود، هكذا هي النظم العادلة التي تنظر إلى مواطنيها على قدم المساواة، فهل هي نظم طوباوية؟

أجيبكم يا سادتي بأنّ هذه ليست طوباوية، إنها معضلة الأمة العربية، فمشكلة هذه الأمة كانت وما زالت في التطبيق والممارسة، ولعله آن الأوان أن يعطى للمجتمع حقه في الدلالة على الانتهازيين وتعريتهم بأن يمارس رقابته الذاتية على أعمال المسؤولين.

وأنهي زفرتي مقتبساً شيئاً من أحد مقالات الطوباوية، تاركاً للفهيم حرية التمييز والإجابة عن ماهية ما سيلي من مقالي:

هل هو طوباوية خرافية، أم بديهية ومسلمات واقعية، أم هو الممكن المستحيل…!

الأمة تختص بمزايا متجلية في نهضاتها المتعاقبة وتتسم بخصب الحيوية والإبداع وقابلية التجدّد والانبعاث ويتناسب انبعاثها دوماً مع نمو حرية الفرد ومدى الانسجام بين تطوره وبين المصلحة القومية، فحرية الكلام والاجتماع والاعتقاد والفن مقدسة، ولا يمكن لأي سلطة أن تنتقصها طالما أنها لا تضرّ بالمصلحة القومية للأمة، والمواطنون متعادلون أمام القانون، متساوون بالإنسانية، متفاضلون بالقيمة التي تقدر بعد منحهم فرصاً متكافئة حسب العمل الذي يقومون به في سبيل تقدم الأمة وازدهارها من دون النظر إلى أي اعتبار آخر.

محام

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى