رحلة إلى الشام الياسمين… وعبقه الواشي بدمشق مدينةَ التاريخ وأعرق عواصم الدنيا
زهرة حمّود
هي الشام، «شآم ما المجد؟ أنت المجد لم يغب»، عبق التاريخ والياسمين الدمشقي، نبض الحياة في الساحات والشوارع والأزقّة.
نبض الفؤاد يسابق وسيلة النقل، فتسقط عوارض «سايكس ـ بيكو»، لأنّ الأرض هي امتداد الأرض، والتلال توأم التلال، والأشجار تمدّ جذورها عميقاً باتجاه كلّ اتجاه، من قال أنهما اثنين، هو الورد الجوري عينه يشمخ بفروعه، وكأنها أذرع تقترب من القادم لتحتضنه مهلّلة فرحاً.
بين حرارة شمس حارقة ونسيمات قادمة من وراء مركز الأمن العام الشاميّ ألف سؤال وسؤال. ترى هل دمشق عروس المدن بألف خير كعادتها؟ أم تظلّلها الكآبة على حلب؟ تردّد الذات المتلهفة للّقاء: «… وعليك عيني يا دمشق فمنك ينهمر الصباح…».
نُنهي معاملات عبور الحدود المصطنعة، وتتهادى السيارات باتجاه الهدف المنشود، الأشجار على جانبَي الطريق تشي بالخضرة والجمال والصمود والصلابة. تعود الذاكرة إلى أيام معرض دمشق الدولي بتاريخه الحافل بالنشاط، إنه وسط المدينة، قلبها النابض من «جسر فيكتوريا» ومتحف دمشق الوطني حتى ساحة الأمويين بمحاذاة نهر بردى، أنا صوتي منكَ يا بردى مثلما نبعك من سحبي».
ها هي نوافير المياه من المياه ذاتها التي تروي تراب أمتنا، وتلك هي النُّصُب والمجسّمات، التي نحت معظمها الأمين الرائع سعيد مخلوف، يقبع في محترفه العتيق عتق السنين، يبدع ويقدّم لك الشاي، محلّى بحديثه عن عراقة العقيدة وروعة الفكر وعَظَمة سعاده. هذه الساحات الخضراء ما زالت هنا تزدحم بالعشّاق من مختلف الأعمار، ويعبق الياسمين ليخبرك أنك دخلت مدينة التاريخ، أعرق عواصم الدنيا على الاطلاق. تستيقظ من أحلامك، إنها أصوات رفقاء الدرب يردّدون أغنية لمجد سورية، يرقصون، ويضحكون، ويهتفون لعزّ سورية. والشوارع من حولهم تضجّ بالحياة والحركة والنظام والنظافة. يصدح صوت رئيسة مؤسسة رعاية أسَر الشهداء وذوي الاحتياجات الخاصة نهلا رياشي: «وصلنا، هنا موعدنا، أمامكم ثلاث ساعات لتزوروا الأماكن التي تحبّون في دمشق وبعدئذٍ سنتحرّك باتجاه صيدنايا».
تردّد في خاطرك: «شكراً لمسؤولة تعرف كيف تستلّ الفرح من قلب المأساة، نهلا تطمح إلى دعم صندوق عائلات الشهداء، نبيلة وسيلتها، وأنبل منها هدفها».
نعم نحن هنا، في ساحة المرجة: «زيّنوا المرجة والمرجة لينا خلّوها فرجة… وهي مزيّنة»، لا تصدّق أن قدميك تطآن أرض المرجة، تروح في الشوارع وتجيء تسمع صوت الباعة، تتحاشى وسائل النقل، هذا سوق الحميدية… يزدحم بالزوار، والبضائع منتشرة وسط الممرّ التاريخيّ الطويل وفي المحالّ على جانبيه. الباعة في كلّ مكان يصرّون على أنّ الشام بألف خير، وستعود أقوى مما كانت، إنهم المقاتلون الأشدّاء الذين لطالما تحدّوا الصعاب وانتصروا على الغزاة، وعادت الشام من أقصاها إلى أقصاها سيّدة البلاد.
انتهت الساعات الثلاث وكأنها ثوانٍ، وانطلقت الرحلة باتجاه صيدنايا. هنا كانت محاولات لتدنيس التاريخ وأماكن العبادة. ها هو دير سيدة صيدنايا يُطلّ شامخاً، هنا كتب سعاده قصة «عيد سيدة صيدنايا»، ورأى أنه «إذا اضمحل الحبّ فماذا يبقى من الحقيقة؟»، وهنا احتضن حبّ الدير الأمينة الأولى وبناتها الثلاث في الزمن الصعب، وهذه شوارع المدينة تروي حكاية التاريخ الموغل في القِدَم.
في الدير تبدأ الحكاية من جديد، المدينة أحسّت بالخطر المحدق بالشام، فتحضّرت باكراً لتحمي تراثها وأرزاق أبنائها. كانوا يداً واحدة مع الجيش و«نسور الزوبعة» واللجان الشعبية، تصدّوا جميعاً للمجموعات الإرهابية، قصدوها إلى التلال وهناك كانت المواجهة. يروي زينون الحكاية، هنا كان كمين، وهناك دارت أشرس المعارك، وهنالك هلك العشرات من الإرهابيين، لقد قطع وعي أهل صيدنايا الطريق على الخراب، فسَلُمت المدينة من وحشية الغزاة.
في معلولا التي نُهبت أيقوناتها، وشُوِّهت تماثيلها، ودُنِّست كنائسها وأديرتها، ودُمِّر فندقها، وخُرِّبت منازل أهلها وشُرِّد سكانها، عادت لتنبض بالحياة بفضل الجيش السوري و«نسور الزوبعة» والمقاومة الذين حرّروا البلدة من الإرهابيين.
صحيح أن الثمن تمثّل بشهداء ودماء عزيزة، بَيْدَ أنّ لإرادة المواجهة ثمنها، وقد روى لنا المسؤول القوميّ حكاية المواجهة مع لصوص الهيكل، وكيف انكفأوا عن البلدة بعد معارك قاسية.
لم تُحرَّر معلولا فحسب، بل تمّ تحرير التماثيل والأيقونات أيضاً. فقيادة الحزب السوري القومي الاجتماعي توصّلت إلى تجار اشتروا المسروقات، وأعادتها إلى معلولا بمساهمات من مجموعة أصدقاء.
تعبر الفالق الصخريّ الذي يربط تلة البلدة بسفحها، ترفع نظرك إلى الأعلى فترى الصخر يلامس السماء. المكان يضجّ بالرهبة وصدى وقع الخطى على حصى تغسله ساقية رقراقة، وتطفح الروح بأغنية فيروزية: «شامُ أهلوكِ إذا همْ على نُوَبٍ، قلبي على نُوبِ».
بعد يوم فيه فيض من العزّ والوجع، وليل سهر على وقع خطى هدّارة، وصباح أشرق على صوت أجراس الكنائس، وحكايات الصمود، تعود بنا الطريق إلى بيروت، وقد تزوّدنا بجرعة من الطمأنينة على مستقبل لن يكون فيه للإرهاب مكان، إنه النصر الذي لا مفرّ منه.