وليد زيتوني
شكلت اتفاقية سايكس – بيكو لقرن كامل، الأرضية السياسية لمنطقة المشرق، أو بتعبير آخر للهلال السوري الخصيب لكونها مع معاهدات سيفر ولوزان وسان ريمو لم تتناول أيّ منطقة أخرى في العالم العربي أو في العالم أجمع. وهي بالتالي تستهدف حصراً هذه المنطقة، لما تتمتع به سورية الطبيعية من حيوية حضارية ومواقع استراتيجية حاكمة يمكن أن تؤثر بشكل كبير على ممرات التجارة العالمية بين الشرق والغرب، بالإضافة الى احتضانها ثروات طبيعية كافية، إذا ما استُثمرت بصورتها الصحيحة، أن تجعلها بقعة صناعية وزراعية وكذلك تجارية هامة، تضعها في صفوف الدول المتقدّمة على المستويين الاقتصادي الاجتماعي والعسكري الأمني.
يبدو أنّ الولايات المتحدة الأميركية التي ورثت الاستدمار الاستعمار القديم، حافظت ولزمن غير قليل على هذه التركة، ما دامت تخدم مشاريعها الجيوبوليتيكية منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، وبقيت كذلك باعتبارها مناطق تنازع نفوذ خلال الحرب الباردة، لا سيما أنّ الكيانات الكبرى كالعراق وسورية كانت أقرب الى الاتحاد السوفياتي سابقاً منه الى النفوذ الغربي وعلى وجه التحديد النفوذ الأميركي بعد العام 1956.
بتبدّل النظام العالمي نحو الأحادية المتفرّدة في أواخر ثمانينيات القرن الماضي وتبدّد النفوذ السوفياتي، أخذت الولايات المتحدة خياراتها الاستراتيجية بضمّ سورية الطبيعية الى المنطقة العسكرية الوسطى، ساعية الى إدماجها في منظومات أوسع كالشرق الاوسط الجديد او الكبير او الموسّع، من دون المسّ بالحدود التي رسمتها سايكس ـ بيكو سابقاً. غير أنّ مجرى الحروب التي خاضتها منذ 11 أيلول، بالقوة الذاتية حيناً وبجيوش بالوكالة حيناً آخر، دفعتها الى تجاوز ما رسمته سايكس ـ بيكو عبر تنظيم مسرح استراتيجي عماده الأساس القوى المستجمعة من شتى أنحاء العالم، ذات صبغة ايديولوجية موحّدة، هي الايديولوجية التكفيرية الوهابية ومتفرّعاتها المحلية داعش، النصرة، جيش الإسلام ، من دون الالتفات الى العوائق السياسية التي رسختها هذه المعاهدة منذ مئة عام. بل عملت أميركا ومن وراءها الى استخدام الكيانات المجاورة للبقع العملانية منصات انطلاق لتحقيق أغراضها العسكرية والسياسية. هذه المسألة أفرزت واقعاً جديداً استسهل القفز فوق الحواجز السايكسبيكوية المصنّعة، وبالتالي جعلها اثراً بعد عين. وليس أدلّ على ذلك من سقوط هذه الحواجز بين سورية الشام والعراق، بين الشام والأردن، بين الشام ولبنان. وارتباط هذه القوى بعضها ببعض ليس أيديولوجياً بل عملانياً ولوجستياً.
لا شك في أنّ معركة الموصل ستكون الشعرة التي تقصم ظهر البعير. فالولايات المتحدة التي تقع تحت تأثير عدم القرار الناتج عن دخولها حمّى الانتخابات الرئاسية قد قرّرت سلفاً قواعد الاشتباك وهوامش الحركة لقيادة المنطقة الوسطى، ومنها خيار الانسحاب من المناطق التي لا تستطيع المحافظة عليها، والتحشيد في مناطق يمكن المحافظة عليها بانتظار الانتهاء من ترتيب الإدارة الأميركية الجديدة. وعليه ستكون منطقتا الرقة ودير الزور أماكن تجميع القوى المنسحبة من الموصل والعراق عموماً. وكذلك منطقة إدلب مكان تحشيد القوى المنسحبة من المناطق الشامية. مع محاولة إشغال الساحات الأخرى من خلال التوزّع المذهبي والاتني عبر إدخالها في مشاريع أقاليمية، كما في العراق خاصة في المنطقة الوسطى أو عبر إدخالها في مطالبات فيدرالية أو مناطق إدارة ذاتية، كما في الشمال الشامي.
هنا لا بدّ من الإضاءة على مسألة جديدة، مستندة الى قانون الفعل وردّ الفعل المكافئ والموازي في الوقت نفسه. ففي الوقت الذي كان الأميركي عبر وكلائه المحليين يتجاوزون حدود سايكس ـ بيكو، نرى أنّ محور المواجهة قد ساهم وبشكل كبير في تحطيم هذه الحواجز. فقوى المقاومة وتحديداً حزب الله والحزب السوري القومي الاجتماعي قد تجاوزا الحدود المرسومة الى النطاق الاستراتيجي الحقيقي والطبيعي.
وعلى هذا الأساس، وبعد هذه المرحلة المفصلية في أمتنا لا بدّ من دعوة الجهات المعنية الرسمية الى خطوات أكثر جرأة في ما يتعلّق بالتنسيق بين الجيوش لتحقيق الانتصار الجدي والحقيقي، وفتح الحدود الاقتصادية والحواجز السياسية ليكون انتصاراً فعلياً يسقط مفاعيل سايكس ـ بيكو إلى الأبد.
نائب رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي