انتصار غزة ومهمات المستقبل
بشارة مرهج
في معركة غزة الخالدة وعندما كان المواطن الفلسطيني يتلقى الصواريخ والقذائف «الإسرائيلية» بصبر وروح معنوية عالية مقدماً أغلى التضحيات في سبيل قضيته العادلة المقدسة، كان الصهيوني المحتل يضرب أخماساً بأسداس في ملجئه محاولاً طرد اليأس الذي تسرب إلى نفسه جراء ضربات المقاومة واستمرارها في الرد والردع في أصعب الظروف، وجراء عجز جيشه عن تحقيق الوعود التي أطلقها بسحق المقاومة وفرض الاستسلام على غزة.
كان الجمهور الصهيوني المكدس في ملاجئه المجهزة، التي لم يتعود الإقامة فيها طويلاً، يتساءل عن سر صمود الشعب الفلسطيني وإصراره على المجابهة والتفافه حول قيادته على رغم الخسائر الهائلة التي يتكبدها نتيجة القصف الوحشي المركز على الجوامع وأهلها، والمنازل وعائلاتها، والمدارس وطلابها، والمستشفيات ومرضاها.
لقد شكل كل ذلك بالنسبة له صدمة كبيرة مشابهة للصدمة التي فاجأته في صيف عام 2006 على يد المقاومة اللبنانية، ولكنه كان في المقابل يمنّي النفس بقرب الانتصار كلما سمع تصريحاً متشنجاً أو مشجعاً من قادته، وكلما مر يوم جديد على محرقة غزة. ولكن الأمنيات سرعان ما كانت تتحول إلى أوهام، إذ كلما ارتفعت وتيرة القصف تحطمت الهجمات على صخرة الصمود الفلسطيني فيزداد تساؤله حول حقيقة ما يجري حتى إذا تبين مسارات الحرب تحول التساؤل لديه إلى خيبة أمل ثم إلى قلق وجودي انتشر وتعمق حتى دفع 59 في المئة من الجمهور الصهيوني المتحمس للعدوان إلى الاعتراف بخسارة الحرب.
هذه هي الخسارة الكبرى التي منّي بها الكيان الصهيوني والتي لن يتمكن من إخفائها، فبعد اليوم لن تتمكن الصهيونية من التصرف في غزة والأرض المحتلة كما يحلو لها من دون «حسيب أو رقيب» إذ باتت تعرف إن التوازنات قد تعدلت والمعادلات قد تغيرت.
وعلى رغم القسوة التي مارستها قوات العدو وفرق الاحتياط التي استدعتها والإشاعات التي أطلقتها في ظل حصار رهيب يمثل أعلى درجات العنصرية والإرهاب فان المقاومة صمدت وأدارت دفة الحرب بحرفية وذكاء وإبداع مما أذهل العدو وأصاب خططه بالفشل.
وإذ خرجت المقاومة من المعركة أكثر تماسكاً، وأوسع تمثيلاً، وأشد تصميماً على متابعة النضال، خرجت القيادة الصهيونية مفككة مرتبكة وشبه منهارة يتبادل أفرادها الاتهامات بالتقصير سواء في جمع المعلومات والتوقعات، أو في القتال الميداني حيث ظهر التفوق الفلسطيني بوضوح مستفيداً من دعم وخبرات الأشقاء والأصدقاء الذين يعرفهم الرأي العام.
إن انتصار غزة كما انتصار لبنان بالأمس يؤسس لمرحلة جديدة في مسار القضية الفلسطينية ويفتح الطريق نحو إنقاذ القدس والمقدسات كما نحو انتصار فلسطين على الاحتلال الذي يجثم على صدر بيت المقدس وأكناف بيت المقدس منذ عقود طويلة.
وإذا كان الانتصار الفلسطيني النوعي والاستراتيجي قد أصبح مرئياً بفضل الدماء الزكية والتضحيات الاستثنائية إلا أن المهمات المستقبلية ستزداد صعوبة في ظل إصرار العدو على سياسة القهر والعدوان والتهجير، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، وتكديس الأسلحة النوعية والذرية، وإجراء التدريبات والمناورات، ومساندة التطرف والغلو وإثارة الفتن في ربوعنا العربية.
إن غزة التي صوبت البوصلة نحو الهدف الحقيقي وكشفت المزايدين والمارقين والتي تنادينا اليوم لدعمها معنوياً ومادياً لتمكينها من إيواء العائلات، وفتح المدارس، وترميم المستشفيات وفتح المعابر، تدرك مع كل الشرفاء والأحرار أنه لا بديل عن المقاومة، وأنه لولا المقاومة لما تحقق هذا الانتصار التاريخي الذي شكل بارقة أمل حقيقية وسط الأحداث المأسوية والمعارك الضارية التي تخوضها أمتنا العربية ضد الفتن الداخلية والغلو والعنف والتدخلات الخارجية.
إن غزة تعرف أنه لا بديل عن وحدة المقاومة والشعب لأنه من دون هذه الوحدة تتعرض المكاسب إلى أخطار لا يمكن تجاهلها فالطريق، ما زالت وعرة وطويلة وحقوق الألغام ما زالت تحيط بنا، وثقافة الاستسلام ما زالت قوية ومنتشرة في المنطقة، والحصارات المتعددة الأشكال ما زالت قائمة… فالأيام الآتية هي أيام الإعداد والبناء والاستعداد لكل الاحتمالات، وهي أيام التضامن والاتحاد حول مناضلي غزة وأطفالها وأهلها.
وزير ونائب سابق