ستون عاماً على مذبحة كفر قاسم والنزف الفلسطيني مستمرّ حتى يتحقق الوعد بالنصر والحرية والاستقلال والتحرير
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
رهانكم على موت كبارنا ونسيان صغارنا لن يتحقق، فنحن كطائر الفينيق نخرج لكم من تحت الرماد والركام، لن تتحقق أحلامكم بأن يبتلعنا البحر، وسنبقى مصدراً لكوابيسكم وخوفكم وهلعكم، فنحن ندرك بأنه مع ولادة كلّ طفل فلسطيني جديد تشعرون بالقلق والخوف، وتقولون بأنّ هذا يقصّر في عمر دولتكم. تمارسون كلّ أنواع الكذب والخداع والتزوير والتضليل، وتمارسون كذلك كلّ أشكال الضغوطات على دول العالم ومؤسسات المجتمع الدولي، وتوظفون «الهولوكست» وما حلّ بكم علي يد النازية، من أجل التأثير على الرأي العام العالمي، وتخويفهم بأنّ تصويتهم إلى جانب الحق الفلسطيني وقرارات منظمة «اليونيسكو» و«لجنة التراث العالمي» المنبثقة عن تلك المنظمة بنفي العلاقة الدينية والتوراتية والتاريخية ما بين اليهودية وما يسمّى «جبل الهيكل» المسجد الأقصى، هي دعوة لتحويل الصراع الى صراع ديني، ولكن الرأي العام العالمي بدأ يستفيق من حالة غيبوبته ورؤيته للأمور بعيون إسرائيلية، فالمنظمة الدولية «اليونيسكو» ولجنة التراث العالمي قالتا بشكل واضح لا يقبل اللبس والتأويل، رغم كلّ ضغوطكم وسخطكم وتحريضكم واتهاماتكم، بأنّ المسجد الأقصى معلم تاريخي وتراثي وثقافي إسلامي خالص، وبأنّ كلّ ما تقومون به من إجراءات وممارسات وأعمال في البلدة القديمة وحولها، هي أعمال غير شرعية وباطلة وفق المواثيق الدولية «جنيف ولاهاي واليونيسكو والأمم المتحدة» وكذلك فهذا القرار أيضاً، ايّ قرار «لجنة التراث العالمي» يقول بأنّ ذلك لا يغيّر من الوضع القانوني لمدينة القدس كمدينة محتلة وفق قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي.
الأرض كانت وما زالت محور الصراع مع المحتلّ، وغزوتهم الأولى لفلسطين جاءت تحت شعار زائف ومضلل «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» بهدف السيطرة على أرضنا وطرد شعبنا وإحلال المستوطنين الغرباء مكانهم، ولذلك كانت المجازر ضمن مخطط بث الرعب والخوف بين أبناء شعبنا، فارتكاب الجرائم والمجازر في قرية أو بلدة فلسطينية، من شأنه أن يعجّل في طرد وتهجير أبناء القرى الأخرى بالقوة، فكانت مجزرة دير ياسين، ومن ثم العديد من المجازر الأخرى، ومن ضمنها مجزرة كفر قاسم في التاسع والعشرين من تشرين الأول 1956، لنفس الهدف والغاية، فبن غوريون رئيس وزراء دولة الاحتلال بعد النكبة والسيطرة على ما مساحته 78 من مساحة فلسطين التاريخية، كان يطمح بأن لا يبقى عربي واحد في الداخل او الجذر الفلسطيني 48، بل يريدونها دولة يهودية خالصة، ونظروا لشعبنا بمثابة القنبلة الموقوتة او السرطان الذي يجب اجتثاثه واقتلاعه.
ولم يدر بخلد المواطنين العزل العائدين متعبين من حقولهم، بأنّ رصاص الحقد والموت والإجرام ينتظرهم على بوابات بلدتهم، حيث أفرغ احد عشر جندياً من حرس الحدود الإسرائيلي نيران حقدهم في صدور الأطفال والنساء والشيوخ والرجال العزل، ليسقط منهم في عدة موجات 49 شهيداً وعشرات الجرحى، والجريمة التي ارتكبها جنود حرس الحدود، لم تكن في إطار فردي او حقد شخصي لمجموعة من القتلة والمجرمين، بل المستويين العسكري والسياسي، لم يكونا بعيدين عن تلك المجزرة، فالهدف واضح: طرد الفلسطينيين وترحيلهم «للحفاظ على نقاء الدولة اليهودية»، وخصوصاً أنّ تلك المجرزة تزامنت مع العدوان الثلاثي البريطاني- الفرنسي- الإسرائيلي على مصر، من أجل إعادة السيطرة على قناة السويس التي أمّمها الرئيس جمال عبد الناصر، وكذلك إعادة السيطرة على مصر وإسقاط نظام عبد الناصر الوطني، والذي أخرج مصر من تحت عباءة الاستعمار البريطاني، وأراد ان يشكل مركزاً ومحوراً لحالة من النهوض القومي والعربي، بما يعيد للأمة عزتها وكرامتها واستقلالها والسيطرة على ثرواتها ومواردها، و«إسرائيل» رأت في نظام عبد الناصر خطراً على وجودها، ومشاركتها في العدوان ليس بغرض ضرب وإسقاط نظام عبد الناصر، والحصول على الدعم البريطاني والفرنسي لتطوير قدراتها النووية والعسكرية، بل رات انّ تلك الحرب قد تهيّئ لها الظروف، من أجل طرد وترحيل المواطنين الفلسطينيين على حدودها الشرقية، والتخلص من المناطق العربية ذات الأغلبية، منطقة المثلث، حيث تكون أنظار العالم متجهة على ما يحدث في سيناء، وبما يوفر لها الغطاء لتنفيذ مخططها في الطرد والتهجير، ولذلك كما يتضح من محاكمات قائد وحدة حرس الحدود المرتكبة للمجرزة «مالينكي» ومحكمة العقيد «يسخار شدمي» والذي كان قائد أحد الألوية المسؤولة عن الحدود مع الأردن ، أنّ مخطط خُلد لم يكن مجرد مخطط أو فكرة، بل أعدّت العدّة لتنفيذه في إطار الخطط الكلية، استعداداً للحرب.
لقد كانت «إسرائيل» معنية، بدفع الأردن إلى شنّ الحرب ضدّها، حتى تستطيع تنفيذ مخططها للتهجير كجزء من العمليات العسكرية، الا أنّ هذه الرغبة اصطدمت بإرادة بريطانيا التي كانت وصية على الأردن، كما كانت ملتزمة باتفاقية دفاع معها يلزمها بتقديم الحماية لها في حالة تعرّضها إلى اعتداء، لم تنجرّ حكومة سليمان النابلسي الوطنية في الاردن وراء استفزازات «إسرائيل»، ويبدو أنّ القيادة «الإسرائيلية» وبعدما فشلت في خلق مناخ مناسب يساعدها على تحقيق أهدافها في طرد العرب، رأت أن يكون الدم هو السبيل لتحقق «إسرائيل» حلمها الإجرامي… فكانت مجزرة كفر قاسم!
اليوم، وفي الذكرى الستين لمجزرة كفر قاسم، لا يزال المحتلّ لا يعترف بالمسؤولية السياسية والأخلاقية عن تلك الجرائم، بل تمعن حكومات الاحتلال في جرائمها و«تغوّلها» و«توحشها» على شعبنا الفلسطيني، حيث مخططات التهويد والأسرلة تطاول كلّ مساحة فلسطين التاريخية في الجليل والنقب والقدس والضفة الغربية، والسياسة الإسرائيلية في ظلّ حكومة يمينية مغرقة في التطرف والعنصرية، تكشف عن أنيابها بشكل وقح وعنصري، حث الهجوم على القيادات والأحزاب والمركبات السياسية العربية في الداخل الفلسطيني48، فالحركة الإسلامية الشق الشمالي – جرى إخراجها عن القانون، لأسباب سياسية غلفت بالقانون والقضاء، وكذلك كانت هناك هجمة أخرى على التجمّع الديمقراطي، وحركة أبناء البلد تعرّضت لهجمة شرسة، والقصد هنا كسر إرادة شعبنا وتطويع حركته الوطنية، وعزلها عن جمهورها العربي، لمنع تبلور أيّ وجود وطني وقومي وعربي، يعبّر عن نفسه ويدافع عن وجوده وبقائه وأرضه، ودولة الاحتلال ما زالت ترى في شعبنا الفلسطيني في الثمانية وأربعين، خطراً امنياً وديمغرافياً وتهديداً استراتيجياً، وما زالت الدولة تربّي أجهزتها على كراهية العرب، والتنكيل بهم مع أول فرصة تسنح لهم… ما زالت الدولة تعتمد سياسة تزييف الحقائق ومسخ الوقائع في كلّ ما له صلة بالجماهير العربية.
ما زالت «إسرائيل» مصرّة على أن تبقى دولة فوق القانون وتتنكر لكلّ حقوق شعبنا الفلسطيني وحقه في الوجود والعيش في دولة مستقلة، وترفض تحمّل مسؤولياتها السياسية والأخلاقية عن نكبة شعبنا وعن تلك الجرائم، بل وتمعن في ارتكاب المزيد منها، فيما يمعن مستوطنوها في التطرف والعنصرية، ويزدادون صلفاً وعنجهية وتنكراً لحقوق شعبنا، وفي المقابل شعبنا لن يستسلم ولن يرفع الراية البيضاء، بل سيستمرّ في النضال والمقاومة، وهو لن ينسى، ولن يغفر، ولن يهجر وطنه، بل سيبقى شوكة في حلق الاحتلال، وصخرة جاثمة على صدوره حتى يتحقق الوعد بالنصر والحرية والاستقلال والتحرير.
Quds.45 gmail.com