قالت له

قالت له: بماذا تصف تناقضات الحبّ بين التمسّك والتخلّي، وبين الحرّية والالتزام، وبين الفرح والحزن، وبين الرضا والإحباط؟ وكيف نبدأ تجاربنا في الحبّ بالبحث عن الأجمل وننتهي بالبحث عن الأفضل؟ ولماذا لا يكون الأجمل هو الأفضل؟ ولماذا يصعب علينا تحمّل حرارة الأجمل حتى نحوّل الحرارة غضباً وخصومةً؟ ويصعب علينا تحمّل برودة الأفضل فتتحوّل البرودة إلى تباعد وملل؟

فقال لها: لأننا صنعنا في عقولنا معايير ومقاييس تتصل بالبحث المتناقض عن الإثارة التي تجلب الشعور بالحياة وتستنفر أعصابنا وأرواحنا، والبحث عن الأمان والاستقرار، وهو ما يجلب الرضا والاسترخاء. والإثارة في الغموض والأمان في الوضوح، والإثارة في المفاجآت والأمان في حدوث المتوقع، والإثارة في القلق والأمان في الثقة. والأفضل هو الأمان والأجمل هي الإثارة. والحياة لا تستقيم إلا بتوازن بينهما، وإلا تحوّل الأمان والاستقرار إلى موت وتكرار، وتحولت الإثارة إلى مقامرة ومخاطرة، ودوام تيّقظ واستنفار. فثمة حدّ لكلّ منهما يجب أن يبدأ منه الآخر. فالاستقرار صنو النظام والثبات، والإثارة ربيبة الفوضى والتغيّر. ونحن توّاقون للاستقرار والإثارة، نتجدّد ونحيا طالما ثمة مساحة للفوضى والتغيّر، ونأمن ونستقرّ طالما نكتشف سياقاً ونظاماً وثباتاً لحياتنا، وقد صنعنا في دواخلنا فلسفات متناقضة تتعايش لتبرّر لنا كل انعطاف نحو أحد التطرّفين. فالتطرّف نحو الإثارة نسمّيه حرّية ونخوضه حروبها دفاعاً عنها من دون أن نتقبل بعضاً منها للآخر. والتطرّف نحو الاستقرار نسمّيه الكرامة ونخوض حروبها من دون أن نتساءل عن الحقّ في انتهاك كرامة الغير.

فقالت: وأين تضع ما بيننا؟

فقال لها: لو كان له مكان يوضع فيه لانتهى. فهو في مرتبة تتأرجح بين الأجمل والأفضل، تموج ألوان قوس قزح بين المشاغبة والمشاكسة وبين المنطق والتمرّد وبين جمال الاحتراق والقلق من الافتراق واطمئنان الاشتياق. لكنه تبدّل فصول بين المستحيل في الطلب وعدم الاستعداد للقبول، وبين التطلّع إلى النجوم والتفكّر بالمعقول، وبين ميزان حقل وبيدر لا يتشابهان. فموسم مقبل وموسم غير مقبول وعدس بالكفّ ولا فول بالمكيول.

فقالت: وهل يرضيك هذا؟

فقال لها: عندما يصل أحدنا إلى الرضا يفقد الفرح، وعندما يقطف غمار الفرح يقع الرضا من تلقاء ذاته. فأنا أشعر بالفرح وهذا يكفيني.

فقالت: وأنا لا أشعر بالرضا وهذا يبكيني.

فقال لها: لأنك ترين الحياة لوحة مرسومة بعناية الخطوط المستقيمة، وهذه لوحة الموت. بينما لوحة الحياة خليط بلا نظام لمنحنيات وفوضى الألوان. ومتى صار جمع المتعارضات بقياس المنطق فيها مستحيلاً صارت بلا جمال. فإن شعرتِ بالفرح لا تضعي له قانوناً أو تخضعيه لقياس قانون، وإن كان سعيك إلى شعور بالرضا فعليك بالقانون، وتحرّكي بين خطوط الأفضل والأجمل فكلاهما مرض قاتل إن استبد بالحياة. واحد يفقدنا الوضوح ويدخلنا في العتمة وآخر يفقدنا الغموض ويدخلنا في الضوء المبهر، وفي كليهما لا ترى العين ولا تشتغل، ومثلما لا إتقان في العمل ولا نجاح ولا طموح ولا أمل إلا تحت الضوء، لا شعر وموسيقى إلا في العتمة. وكثرة الضوء والدقة مزيد من الملل، فالشوق لا يأتي إلا بالابتعاد، وكلّما زاد، زاد الجمال والأصل في الحبّ الوصال. ووصال بلا شوق تكرار واغتراب، وشوق بلا وصال قلق واضطراب.

فقالت له: أريد الآن الفرح ولك أنت الرضا، فهل تتقن رقصة زوربا؟

فقال لها: ولك ذلك، ولنخرج إلى الحديقة بثياب النوم.

فقالت: اِسبقني لأرتّب هندامي.

فقال: وهذا استبداد الرضا بالنساء حتى لو تزيّنت لها السماء. فلربما رأتنا جارة أو قال عنك الناس أموراً.

فقالت: وما الخطأ بالجمع؟

فقال: ولنجمع إن تيسّر.

فرمقته بكبرياء وأمسكت بذراعه ورفعت صوت الموسيقى ودقّت قدمها اليمنى تعلن بدء الاحتفال، وهو يطويها قرب خصره، ويتمتم: دعي من يدك اليسرى هاتفي النقال.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى