ما بعد غزة…! هوامش على الدور المصري المطلوب!
د. رفعت سيد أحمد
يمكن الآن التقييم الهادئ للمواقف والأدوار في حرب الـ51 يوماً على غزة خصوصاً بعد أن اختلطت الأوراق، وتاهت الحقائق وسط ثنائية الدمار/الصمود، المقاومة/العدوان التضحيات/التجارة بالأرواح من حلف قطر إلى تركيا وبقايا الإسلام السياسي الملتحف بأميركا.
دعونا نتلمس بعض الحقائق علها تفيد خصوصاً في شأن مواقف وأدوار الدول المركزية في الصراع:
أولاً: لا يحتاج شعب غزة ومقاومته من أبناء الداخل إلى شهادة منا أو من غيرنا بالبطولة وإلى القول بأنهم انتصروا، فلقد كانوا بالفعل أبطالاً، منتصرين، إن غزة هنا لم تكن جغرافياً تقاوم، بل تاريخ، وقيم إنسانية، تعلي من مفهوم المقاومة والجهاد، وتثبت معادلته التاريخية القائمة على: «طالما هناك عدوان واحتلال فلا بد أن توجد المقاومة»، وأن تنتصر في النهاية مهما كانت شراسة وقسوة العدو.
لقد انتصرت غزة ، وقدمت القدوة لكل المظلومين الذين قد يكونون ضعفاء في العناد، لكنهم الأقوياء بالإيمان والإرادة لقد فشل الصهاينة في تحقيق أياً من أهدافهم المعلنة في بداية العدوان، وتراجعوا خطوات للوراء على رغم الدمار والدم الذي أراقوه في شوارع غزة، وعلى جدران بيوتها المهدمة لقد فشلوا وانتصرت غزة، وهذا هو جوهر المسألة كلها.
ثانياً: تنوعت مواقف الدول الإقليمية والدولية من العدوان، إلا أن ما يجمعهم كان التخلي شبه الكامل عن غزة الصامدة لوحدها، باستثناء إدانة هنا وشجب هناك، إلا أن الجميع تخلى عملياً، وظلت غزة تصرخ يا وحدنا طيلة الـ51 يوماً لا يؤيدها أو يؤازرها عملياً سوى شعبها أطفالاً ونساءً ورجالاً هؤلاء هم الذين ساندوا ودفعوا الثمن، ولا داعي لإدعاء بطولة في قطر أو تركيا أو غيرهما من بلاد المشرق والمغرب. الجميع مع استثناءات قليلة كانوا في عداء مع أهل غزة.
ثالثاً: من هؤلاء الذين كانوا إلى جانبهم، تأتى الدول التي مدت المقاومة الفلسطينية بالسلاح، ونقصد بها تحديداً سورية إيران حزب الله فهؤلاء وباعتراف المقاومة الفلسطينية هم الذين وفروا قبل العدوان ما يقارب الـ 11 ألف صاروخ تم إدخالها في السنوات السابقة عبر البحرين الأبيض والأحمر إلى داخل غزة، وهي الصواريخ التي أحدثت المعادلة الكبرى في تلك الحرب، حين طاولت الضربات الصاروخية للمقاومة كل سماء المدن «الإسرائيلية»، وهددت اقتصادها وأمنها، صحيح التدمير المادي لهذه الصواريخ كان أقل قوة من التدمير المادي لضربات الطائرات «الإسرائيلية» على القطاع صغير الحجم كثيف السكان إلا أن النتيجة النفسية والسياسية للضربات الصاروخية، كانت كبيرة ومؤثرة وستحدث في المستقبل توازناً استراتيجياً في موازين القوى بدأت تظهر إرهاصاته الآن في الكتابات الصهيونية.
رابعاً: ومن بين الأدوار التي كانت مساندة لغزة وأهلها ولكن بحذر، وأحياناً بالتباس، يأتي الدور المصري، وهنا يحتاج هذا الدور منذ بدء العدوان في 8/7/2014 وإطلاق المبادرة الشهيرة إلى إعادة تحليل وإعادة فهم يمكننا رصدها في الآتي:
1 منذ البداية كانت مصر الرسمية والشعبية ضد العدوان الصهيوني، وإن كانت مظاهر التعبير عن ذلك أقل من المتوقع قياساً بالعدوانين السابقين 2008 2012 ويعود، التردد والارتباك في الموقف الرسمي إلى هذا التداخل التاريخي: السياسي والعقدي بين حماس والإخوان، وإلى الخصومة السياسية الدامية بين النظام الحالي وبين الإخوان ، وإلى عدم نجاح حماس وبعض فصائل الإسلام السياسي الفلسطيني في إبراز التمايز الواضح والقاطع بينهم كحركات مقاومة وبين الإخوان المسلمين في مصر كجماعة على خصومة سياسية دامية مع النظام الجديد ومع قطاعات واسعة من الشعب المصري.
هذا التداخل وعدم الفرز، أدى إلى ارتباك سياسي في التعامل مع الأزمة استمر فترة لا تقل عن شهر، غذاها فيها، الإعلام، بترهات وخرافات سياسية تشيطن كل الشعب والمقاومة الفلسطينية، إعلام خلط عن قصد وسوء نية بين المقاومة الفلسطينية الباسلة وبين بعض الجماعات الفلسطينية السلفية التي تقاتل في سيناء، وخلط بين الشعب الفلسطيني والقيادة السياسية لحماس الممولة من قطر وتركيا وعندما بدأ يتضح للجميع أن حماس أضحت: حماسين حماس الداخل من القساميين المجاهدين بقيادة محمد الضيف و حماس الخارج المنقسمة على نفسها بين حماس التنظيم الدولي للإخوان التي تعلي من الأخونة بكل مشاكلها وخصوماتها مع النظام والشعب في مصر، وبين حماس الخارج الفلسطينية والتي تحاول أن تنأى بنفسها عن خصومات الإخوان وثاراتهم التي أوردت الجميع موارد التهلكة ولكنها لم تقدر.
عندما بدأت الدولة في مصر تفرز، وتفهم، وتفرق بين غزة و حماس ، وبين حماس الداخل والخارج، وبين المقاومة المجاهدة والتي تتشكل من 13 فصيلاً مقاوماً وليس من حماس وحدها، بدأ عندئذ يستقيم الدور المصري، ويتضح في انحيازاته لصالح غزة، وبدأ يفرض شروط المقاومة وينحاز لها في المفاوضات غير المباشرة مع العدو الصهيوني كما صرحت قيادات المقاومة الفلسطينية ذاتها بمن فيهم د. رمضان شلح في مؤتمره الصحافي عن الانتصار المنعقد في بيروت.
إذن… لقد مر الدور المصري في أزمة غزة الأخيرة بعدة مراحل تبدأ بالارتباك نتيجة الأزمة مع الإخوان مع حماس الإخوانية وتنتهي بالانحياز الواضح للمطالب الفلسطينية وفى التفرقة بين حماس الإخوانية، وحماس الداخل القسامية.
طبعاً، هم لا يقولون علناً بهذا الفرز، ولكننا نشخص الحالة كما نراها على أرض الواقع، وهنا ينبغي أن نسجل ملاحظة مهمة أنه لولا صمود وصبر وجهاد أهل الداخل لما تغير الموقف المصري الرسمي والشعبي، لقد كان لهذا الصمود الدور الأبرز في تغيير مواقف القيادة المصرية تجاه الأزمة.
ولعل من نافلة القول، والمبنى على قناعة راسخة لدينا والقائمة على أن صراعنا مع العدو صراع وجود، فإن مجمل الدور المصري كما هو الدور العربي المقيد بكامب ديفيد وبنودها السرية لا يرضي كل من ذاق الأمرين من هذا العدو، عبر الصراع الطويل معه، بل ويطالب بتغييره نحو الأفضل، والذي يعني إلغاء هذه الاتفاقات المذلة.
وبالتأكيد أيضاً نحن ممن يرى أن مصلحة مصر، وليس فحسب مصلحة فلسطين، تتطلب إجراء تغييرات كبرى في سياسة مصر الخارجية تجاه العلاقات القائمة اليوم مع العدو الصهيوني، فهذا السلام، ومن واقع دراسات معمقة لحصاد التطبيع طيلة الـ37 عاماً منذ 1977-2014 . سجلناها في موسوعتنا عن التطبيع والمطبعون في مصر1979-2011 والصادرة قبل أيام كانت سلبية وفى غير صالح مصر سياسياً واقتصادياً، واستراتيجياً، نحن لا نطالب ولا نتوقع بتحولات درامية مفاجئة في مسار العلاقات، ولكن على الأقل لا بد من إعادة النظر فيها بالكامل والتدرج في إنهائها، فمصلحة مصر القومية تتطلب ذلك، والتحديات في سيناء المنزوعة السلاح وفقاً لهذه الاتفاقات تفرض ذلك وتفرض بالمقابل علاقات أكثر دفئاً وترابطاً مع شعبنا الفلسطيني في كل فلسطين وليس في غزة وحدها، وتتطلب أيضاً، من ساسة مصر قبل إعلامها، التوقف عن شيطنة الشعب والمقاومة الفلسطينية فهؤلاء يدافعون عن أمن مصر القومي قبل دفاعهم عن أمن غزة، هكذا تقول الجغرافيا، ويحدثنا التاريخ. والله أعلم.
E mail: yafafr hotmail. com