نفخ أوباما في عضلات «الناتو» لا يخيف بوتين تكرار ماثل لأخطاء معسكر الحلفاء قبل 7 عقود

الازمة الاوكرانية ومواجهة الدولة الاسلامية تناصفتا اهتمامات المشهد الاعلامي والسياسي، اذ وجدت الوسائل الاميركية ضالّتها في تسليط الضوء على ذبح الصحافي الاميركي الثاني، سوتلوف، لتهيئ الوعي الشعبي بضرورة التصدي عسكرياً للمجموعات التكفيرية في بلد بعيد عن وطنهم. سيستعرض قسم التحليل المتضمّن التئام قمة دول حلف «الناتو»، في مقاطعة ويلز البريطانية، وخروجه بتوصية من الجانب الاميركي لإنشاء «قوة تدخل سريع» تتبع لإمرة الحلف. سيجري بحث التوصية والقرار ببعض التفصيل والمهام المعقودة عليها لإنجازها، والاستدلال بالتجارب التاريخية في اوروبا ذاتها لتصويب الجدل حولها لا سيما على ضوء «عملية ماركت غاردن» في الحرب العالمية الثانية، ايلول 1944، والدروس التي لا تزال ماثلة امام المخططين العسكريين.

مؤتمر حلف «الناتو»

استغلت مؤسسة «هاريتاج» فرصة انعقاد قمة دول حلف الاطلسي لتذكر الرؤساء بضرورة «العودة الى الأسس» والتمسك برسالة الحلف. وقالت إن «مهمة الحلف عند انشائه عام 1949… انصبّت على ردع وهزيمة ان تطلب الأمر الاتحاد السوفياتي وحلف وارسو… والحيلولة دون انتشار الشيوعية في اوروبا». وأكد المعهد ان «مبدأ التهديد لم يتلاش… وينبغي على دول الحلف الارتقاء الى مستوى الدفاع عن السيادة الاقليمية للاعضاء… كما ينبغي على الولايات المتحدة استغلال مؤتمر القمة كفرصة مواتية للتركيز على مبدأ الدفاع لمشترك، وحث الاوروبيين على تخصيص موارد اضافية للإنفاق على القوات العسكرية، والإبقاء على سياسة الباب المفتوح» لضمّ اعضاء جدد.

«الدولة الاسلامية»

نبّه مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية صنّاع القرار الى حصرية الخيارات المتاحة لمحاربة الدولة الاسلامية، مطالباً الولايات المتحدة باستخدام أقصى ما يتوفر لديها من إمكانيات مثل «القدرات النارية الجوية، والتزوّد بالاسلحة، ونشر مستشارين عسكريين في الخطوط الأمامية، وتسخير كافة طاقاتها الاستخبارية واستهداف مواقع الخصم، والانتقاء الدقيق لعناصر القوات الخاصة لتنفيذ مهام سرية ضدّ المنشآت الحساسة ومراكز التجمّع والمتطوّعين الاجانب والاصول المادية للدولة الاسلامية، وتوظيفها بدقة لتتفادى إيقاع الخسائر بين سنة العراق الذين ينبغي كسبهم في العودة والمشاركة في الحكومة العراقية والتصدي للدولة الاسلامية».

اعتبر معهد «كارنيغي» ان الجهود الدولية «لهزيمة الدولة الاسلامية تتطلب تسوية سعودية ايرانية»، لا سيما في ظلّ غياب «اي مؤشرات واضحة على وجود استراتيجية اميركية من شأنها ان تحلّ مشكلة تنامي الدولة الاسلامية». وحذر من عناصر استراتيجية اوباما التي تقصي «اللاعبين من غير السنة… الذين من دونهم لا يمكن تحقيق نجاح اي استراتيجية..». واستدرك بالقول إنه رغم تشاطر السعودية وايران في عداء «داعش»، الا انّ «السعودية لا تزال قلقة مما قد يحدث اذا تم القضاء على التنظيم..». واعرب المعهد عن اعتقاده بأن «السعودية لن تدعم عملية متعدّدة الجنسيات ضدّ الدولة الاسلامية»، كما ينادي بها اوباما ووزير خارجيته جون كيري نظراً إلى قلقها من المشروع «الا اذ استطاعت ان تضمن دوراً لنفسها في سورية والعراق بعد هزيمة التنظيم».

فنّد معهد الدراسات الحربية فعالية «الغارات الجوية الاميركية التي لم تفلح في وقف اندفاعة داعش». وذكّر صنّاع القرار بأهداف داعش التي تسعى للسيطرة على الموارد الطبيعية في حوض نهر الفرات «فضلاً عن نيته بتوطيد خطوط اتصالاته على الجانبين العراقي والسوري… بصرف النظر عن تعرّضه للغارات الجوية الاميركية..».

دقّ مركز السياسة الأمنية ناقوس الخطر محذراً من إمكانية لجوء «داعش» إلى شن هجوم داخل الاراضي الاميركية، مستشهداً بالنتائج التي توصلت اليها دائرة السلامة العامة في ولاية تكساس التي «أعربت عن اعتقادها بتوفر دلائل تشير الى انّ داعش بصدد شن هجوم وشيك» في اميركا تستهدف «تضعضع سلامة شبكة توزيع الكهرباء». واوضح المركز انّ الشبكة تعرّضت لسلسة هجمات في الآونة الاخيرة والتي «ربما شكلت تدريبات ميدانية» لعمليات مقبلة.

مصر

وجه معهد «كاتو» نقداً لاذعاً للإدارة الاميركية على خلفية «إشادتها بالحكومة التي يديرها العسكر… اذ انّ الممارسات القمعية من غير المحتمل ان تؤدّي الى الاستقرار». وحث ادارة الرئيس اوباما على «وقف تدخلها الدائم والخالي من الحذق والبراعة وتدرك ان نفوذها محدود بشدة» لدى النظام المصري. وشدد المعهد على ضرورة «وقف الادارة استغلال برامج المساعدات المقدمة كوسيلة رشوة للضباط المصريين… وسينتهي المطاف بمصر الى ان تجد نفسها عديمة الحرية والاستقرار…».

ليبيا

اعتبر معهد «كارنيغي» الغارات الجوية التي شنتها «المقاتلات الحربية المصرية بالاشتراك مع الامارات انما تنمّ عن استرايجية قصيرة النظر، لا سيما انها لم تشكل حاجزاً مانعاً امام قوى مصراتة الاسلامية الطابع وبسط سيطرتها على مطار طرابلس الدولي. وحذر بالقول انه بصرف النظر عن «طبيعة وحجم الدعم المصري، سواء عسكري او بوسائل اخرى، فمن غير المرجح ان يسفر عن التلاشي التام لتهديد الاسلاميين لمديات تريح الرئيس عبد الفتاح السيسي».

آسيا الوسطى

حذر مركز الدراسات الدولية والاستراتيجية من غياب «النظرة الاستراتيجية» لدى صناع القرار في ما يخص التطورات الجارية في «افغانستان والباكستان وآسيا الوسطى… لا سيما انّ حاجة الولايات المتحدة للإبقاء على حضور اساسي في المنطقة لا يحظى بالاجماع، واستطراداً، لتبرير نشر موارد ونفقات اضافية». واوضح «ان أس الاستراتيجية الاميركية لإعادة التوازن في آسيا تضع نصب اعينها دول شرقي آسيا وتراجع اهمية منطقة المحيط الهندي»، لا سيما ان اميركا لا تزال «ترى اهمية الهند ودورها لمراقبة وموازاة الصين، بيد انها لم تحصد نتائج كبيرة او فوائد مرجوة».

أوكرانيا في عين العاصفة الاميركية

بعيداً عن اي ضجيج اعلامي، اقرّ بعض الاستراتيجيين الاميركيين ان الهدف الابعد للاستراتيجية الاميركية لا يتمثل في «محاصرة روسيا على حدودها ونشر بضعة صواريخ هناك»، رغم أهميته المعنوية والسياسية، بل يتجاوزه لإنهاكها «للحيلولة دون بروز عالم متعدد الاقطاب». في هذا السياق، حذر وزير الخارجية الاسبق هنري كيسنجر بلاده، في شهر تموز الماضي، من مفاقمة الأزمة الاوكرانية والمضيّ في تحريضها الإعلامي «لشيطنة الرئيس فلاديمير بوتين»، مطالباً صناع القرار بالجلوس مع روسيا إلى طاولة المفاوضات مقالة مطولة في صحيفة «واشنطن بوست» . ايضاً السفير الاميركي الاسبق لدى موسكو، جاك ماتلوك، حث الشعب الاميركي محذراً من عدم «تفهّم المصالح الروسية… وعدم السماح بتوسيع حلف الناتو» ليضمّ اوكرانيا.

إمعاناً في توضيح مسؤولية الغرب والولايات المتحدة بشكل خاص وحالة الاحباط من الفشل، أنّب نائب وزير الخارجية الاسبق والسفير الاميركي لدى حلف الناتو، نيكولاس بيرنز، حلفاءه الاوروبيين «لاضاعتهم فرصة تعزيز اجراءات المقاطعة ضد روسيا». ووبّخهم قائلاً: «يؤسفني القول إنّ الرئيس بوتين تفوّق ببراعة على حلف الناتو» لإبقائه باب الحوار مفتوحا خاصة مع المستشارة الالمانية، انجيلا ميركل، والرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، الذي تعرّض لضغوط اميركية مكثفة لتعديل موقفه من موسكو، يدعو إلى التوصل لوقف اطلاق النار كأحد الشروط للمضيّ بتسليم حاملة طائرات مروحية «ميسترال» لروسيا قبل نهاية العام الجاري.

العدد الأخير من فصلية «فورين افيرز»، الرصينة تصدّرته دراسة للأكاديمي المخضرم جون ميرشايمر يؤكد فيها انّ «الازمة الاوكرانية هي من صنع الغرب… الولايات المتحدة ومعظم حلفائها الاوروبيين يتحمّلون القسط الاوفر من مسؤولية الأزمة». بعبارة اخرى، شهد شاهد من اهلها ان «حلف الناتو هو الطرف المعتدي» في الحالة الاوكرانية.

توصيف الأوضاع الدولية الملتهبة بدقة وتحديد الأطراف المسؤولة عن اندلاع النيران هي وصفة ليست جديدة. لعل الجديد في الأمر ان التدهور يجري تحت سمع وبصر هيئة الأمم المتحدة «المنوطة بحفظ السلام العالمي»، ويؤشر على عجزها المرة تلو المرة في التخلص من تبعية قرارها للدول الغربية. كما يعزز سعي بعض الدول المتضررة، لا سيما في اميركا اللاتينية، الى انشاء منظمة دولية موازية او بديلة تمارس حقها في استقلالية القرار واداء رسالتها الرفيعة مدعومة بتوازنات جديدة تبشر بتعدّد القطبية وكسر الاحتكار الجاري، في مستوياته المتعددة: سياسياً وعسكرياً واقتصادياً وثقافياً… الخ. كما لا ننسى المساعي الجارية لتفعيل وزن ودور دول «البريكس».

بعض أوروبا يتباعد عن اميركا

حرص الرئيس اوباما على مشاركته الشخصية في قمة دول حلف «الناتو»، في ويلز البريطانية، وأتبع المشاركة بالاعلان عن زيارة يخصصها لدولة استونيا في بحر البلطيق والتزامه بارسال طائرات عسكرية للتحليق في اجواء دول البلطيق الثلاثة: ليتوانيا ولاتفيا واستونيا إمعاناً منه في ممارسة سياسة استعراض القوة مع الرئيس الروسي بوتين، وإرساء سقف سياسي للحوار المرتقب بتوسيع نطاق الحلف ليتمدّد بالقرب من الأراضي الروسية، وفي محاولة مدروسة من مساعديه للردّ على سيل الانتقادات لضعف قيادته في ادارة الشؤون الخارجية.

انفضّ لقاء قمة «الناتو» دون توصلها لبيان صريح وواضح بتوفير الدعم العسكري لاوكرانيا، كما روّجت له حكومة كييف الموالية لواشنطن، واكتفى الحلف بالتأكيد على حق اوكرانيا باسترداد كامل سيادتها على اراضيها. وسرعان ما أُعلن عن توصل الحكومة الاوكرانية والقوى المعارضة شرقي البلاد الى وقف لاطلاق النار. في هذا الصدد أجمع المراقبون للتطورات الاوكرانية على أنّ حكومة كييف تلقت هزيمة كبيرة وستضطر لقبول شروط خصومها، او معظمها، المطالبين بصيغة سياسية كونفدرالية توفر لمناطقهم مساحة اوسع من الحكم الذاتي.

لخص معهد «ستراتفور» الاستخباري الموقف بالقول انّ «حلف الناتو اخفق في توفير الدعم المطلوب لكييف… وسيضطر الرئيس الاوكراني بوروشينكو الى التفاوض على حلّ للأزمة مع سيد الكرملين». روسيا اوضحت موقفها مراراً بأنها تعارض بشدة تمدّد حلف «الناتو» في حديقتها الخلفية، والتوصل الى صيغة سياسية تبقي على حياد اوكرانيا وعدم انضمامها إلى الحلف، واعتمادها الصيغة الفيدرالية للحكم. جون ميرشايمر اوضح ايضاً بقوله «ارتكبت الولايات المتحدة والقادة الاوروبيون خطأً فادحاً في توجههم لتحويل اوكرانيا الى معقل للغرب على حدود روسيا».

يذكر انّ المفكر الاستراتيجي الراحل، جورج كينان، وآخرين حذروا صنّاع القرار مبكراً من مغبة توسيع حلف «الناتو» طمعاً في محاصرة روسيا، بيد ان التحذيرات ذهبت أدراج رياح الليبراليين والمحافظين الجدد، على السواء، الذين ليس بوسعهم التغافل عن انّ استراتيجيتهم «أسفرت عن إطلاق صيحات بضمان الأمن لدول معظمها لا يقوى على حماية نفسه، وستشكل عائقاً أكبر للحلف في سعيه إلى نجدتها» من تهديد روسي محقق.

وصوّبت يومية «فورين بوليسي» سهام انتقاداتها على تلك الفصيلة المتجانسة من «الليبراليين الجدد»، المحيطة بالرئيس اوباما وتدفعه لاتخاذ قرارات مغامرة «على شاكلة الامبراطورية البريطانية» التي اتخذت «قراراتها الحمقاء في غفلة من الزمن» باستنادهم الى «فرضية أنّ الضمانات المتعدّدة التي يعد بها الحلف لن ترى النور ابدا».

الرئيس أوباما وأعوانه، وبعض مؤيديه في الحلف «بريطانيا التابعة»، أسرفوا في التأكيد «لدول البلطيق والحلفاء في أواسط أوروبا» عن عزم حلف الناتو الهبّة لنجدتهم والتسلّح بنصّ المادة الخامسة من ميثاق الحلف التي تخوّل نشر قوات برية على أراضي دولة معرّضة للاعتداء. وذهب أوباما للطلب من الكونغرس تخصيص مبلغ مليار دولار اضافي «لدعم مبادرة تطمين اوروبا» للانفاق على القوات الاميركية المتواجدة في الاراضي الاوروبية، والصرف على المناورات العسكرية المشتركة التي تجري دورياً مع عدد من الدول.

اميركا طالبت دول الحلف مجدداً بزيادة معدلات ميزانياتها العسكرية والبدء في شراء المقاتلات الاميركية الحديثة، من طراز اف-35-ايه، ونموذجها القادر على حمل السلاح النووي تحديداً. كما تسعى الولايات المتحدة الى إعادة تثبيت قيمة اسلحتها النووية «التكتيكية»، التي تقدر بنحو 180 رأس نووي، مخزنة في خمس دول اوروبية: بلجيكا والمانيا وايطاليا وهولندا وتركيا.

وفي التفاصيل، أعربت المانيا عن نيتها شراء المقاتلة بنسختها التقليدية خالية من التجهيزات والأسلحة النووية، لانها «لا ترى حاجة ماسة لتلك الاسلحة فضلاً عن غياب الحماس لتحمّل كلفتها الباهظة». وثائق حلف «الناتو» تشير بوضوح الى إسراف الدول الاوروبية في الانفاق على التسلّح بمعدل «يفوق اربعة اضعاف ما تنفقه روسيا سنوياً»، وتتعرّض لضغوطات شعبية واقتصادية لتخفيض الميزانيات العسكرية وعلى الطرف الآخر تتعرّض لضغوط اميركية مغايرة لزيادة معدلات الإنفاق وهي حائرة بين الخيارين، يفاقمها الاوضاع الاقتصادية المتردّية في معظم الدول وبعضها شارف على الإفلاس.

اغراءات اميركية في الزمن الضائع

سارعت الولايات المتحدة إلى الاعلان عن اجراء مناورات عسكرية، الرمح الثلاثي السريع رابيد ترايدنت- تعبيراً عن التزامها بدعم «البوابة الشرقية لحلف الناتو». المناورات السنوية الاعتيادية تجري على اراضي بولندا، وبالقرب من الحدود المشتركة مع اوكرانيا. واضافت قيادة القوات الاميركية لاوروبا ان اميركا ستشارك بنحو 200 عنصر يعززهم نحو 1،100 من قوات الدول المشاركة: اوكرانيا، اذربيجان، بريطانيا، كندا، جورجيا، المانيا، لاتفيا، ليتوانيا، مولدوفا، النرويج، بولندا، رومانيا، واسبانيا.

يُضاف الى ذلك، تجهيز عربات مدرّعة ونحو 600 عسكري لاتخاذ مواقعهم في بولندا ودول البلطيق للمشاركة في مناورات عسكرية مشتركة تجري في شهر تشرين الاول المقبل، في اعقاب انتهاء مناورات شاركت فيها قوات مسلحة من المظليين.

روّجت اميركا لتبنّي قمة «الناتو» إعلانها المسبق بتشكيل قوة عسكرية للتدخل السريع، قوامها لواء مسلح، باستطاعته الانتشار والتمركز خلال 48 ساعة. اما ترسانة تسليحه فسيتمّ تخزين الاسلحة الثقيلة في دول «اوروبا الشرقية» ووضعها تحت تصرفه التام.

واوضح الامين العام لحلف الناتو، اندرز فوغ راسموسن، نوايا المؤسسة بزيادة معدل البعد العسكري في مهامه بالقول إنّ الحلف يواجه تحديات متعددة… روسيا تتدخل بشكل سافر في اوكرانيا… ازمات متعددة قد تنشب من دون سابق انذار، والتحرك بسرعة فائقة تترك تداعياتها على أمننا الجماعي بطرق شتى. سنبلور قوة رأس حربة من ضمن قوة التدخل، مما يستدعي إقامة منشآت معينة في أراضي الحلف، وتخزين معدات ولوازم مسبقاً، ووضع خبراء في شؤون القيادة والتحكّم والأعمال اللوجستية تحت تصرفها..».

قوة التدخل الحالية التابعة للحلف يستغرق تحركها نحو 5 أيام للوصول الى الميدان وباستطاعتها البقاء نحو 30 يوماً من دون الاضطرار إلى التزوّد بالإمدادات. وقد أوكلت لها مهام التدخل 6 مرات في المدى القريب: توفير الحماية لدورة الألعاب الاولمبية في اثينا عام 2004 وكذلك للانتخابات العراقية المشاركة في العدوان على ليبيا عام 2011 الاشراف على أعمال الإغاثة الإنسانية في افغانستان والمشاركة ايضا في اعمال الإغاثة في اعقاب إعصار كاترينا في الولايات المتحدة وتوفير الإغاثة الانسانية في اعقاب كارثة الزلزال الذي عصف بالباكستان.

وعانت تلك القوة من تعدد الولاءات الوطنية لقواتها مما اضعف جهود التنسيق في ما بينها، كما شهدت عليه دورة الالعاب الاولمبية. اذ شارك فيها نحو 9،500 عنصر من كتيبة مظليّين فرنسية وسرية من القوات الجوية المحمولة لليونان وسرية قوات خاصة من بلجيكا توزعت غالبيتهم العظمى، 8.500، على القوات الجوية والبحرية، والمتبقي نحو 1،000 عنصر من القوات البرية.

درس من التاريخ

بناء على ما تقدم، يبرز السؤال ان كان باستطاعة القوات الحديثة للحلف تشكيل قوة ردع يحسب لها حساب من قبل روسيا.

الإجابة قد تقود المرء وقادة الحلف الى النظر بأحداث التاريخ القريب التي جرت على أراضي بلجيكا وهولندا قبل نحو 70 عاماً في مثل هذه الأيام. آنذاك، شاركت قوة التدخل السريع للحلفاء اعتبرت الأكبر في حجم عمليات القوات المحمولة جواً في «عملية ماركت غاردن»، في الفترة الممتدّة من 17 الى 25 أيلول 1944. كانت نتيجتها مأساوية اذ تعرّضت الفرقة الجوية البريطانية الاولى المتمركزة في مدينة ارنام الهولندية الى ابادة شبه تامة.

يدرك القادة العسكريون، القدامى والحاليون، القدرة المحدودة لقوات التدخل السريع لتنفيذ مهامها انطلاقاً من طبيعة تشكيلها وتسليحها كقوة مشاة خفيفة الحركة، عادة ما يتمّ إنزالها في مواقعها جواً. الميزة الأولى التي تتحلّى بها تلك القوات هي برامج التدريب والتأهيل المكثفة التي تتفوّق على ما يماثلها لتأهيل القوات البرية العادية.

القوات الاميركية، بدورها، لديها الفرقة 82 المحمولة جواً وفوج الحرس الخامس والسبعين، واللتين من المرجح ان تنضمّان إلى تعزيز قوة «الناتو» المعلن عنها، وباستطاعتهما اتخاذ مواقعهما خلال 18 ساعة من تلقي أوامر التحرك. القوتين مدرّبتين على مهام الاقتحام، الدخول عنوة الى أراضي الغير، والسيطرة على المرافق الحيوية. وشارك فوج الحرس المشار اليه في تأمين منصة انطلاق للجيش الاميركي في جزيرة باربادوس بالبحر الكاريبي ونجحت في مهمتها بأقلّ من 18 ساعة ممهّدة الميدان لتعزيزات الفرقة 82 المحمولة.

مخازن الأسلحة الثابتة المعدّة في أراضي دول اوروبا الشرقية ستكون هدفاً للغارات الروسية لحرمان القوات الغازية من امكانياتها. وعليه، ستضطر قوة حلف «الناتو» إلى الاعتماد شبه التام على ما تحمله معها من أسلحة ومعدات لتنفيذ مهامها، والتي ستتواضع إنجازاتها بناء على ما لديها من إمكانيات.

مراهنة الحلف على الفرقة 82 المحمولة لاختراق أراضي الخصم محفوفة بمخاطر عدة. باستطاعة الفرقة إنزال نحو 2.000 مظلي وعربات مدرّعة ومدافع هاون من طراز 155 ملم على شريط يمتدّ نحو 5 كلم واستخدامه كنقطة تجمع للتعزيزات والإمدادات، ومن ضمنها وحدات العربات المدرّعة «سترايكر». وينبغي على قادة حلف «الناتو» الإجابة الصريحة على المدى الجغرافي المنوط بقواته تأمينها بالنظر الى تواضع الأسلحة والمعدات المستخدمة.

في ذلك الزمن القريب، أوكلت الفرقة 82 المحمولة مهمة السيطرة على جسر نيميغن في مدينة هولندية بذات الاسم، تقع على ضفاف نهر فال المتفرّع من نهر الراين، عام 1944. وفشلت الفرقة في مهمّتها على يد وحدة من المدرّعات الالمانية، ولم تستطع التقدم الى ابعد من 400 متر من الجسر إنجاز مهمتها إلا بعد مضيّ بضعة أيام بدعم من القوات البرية التابعة للفيلق 30، بعدما تكبّدت خسائر كبيرة.

اما الشعبة الأولى البريطانية المحمولة فكانت خسائرها أعلى من نظيرتها الأميركية اذ فقدت منطقة الإنزال التي سيطرت عليها سابقاً، ونفذت ذخيرتها وإمداداتها، ومن لم يقع في قبضة الالمان من رجالاتها فرّ هارباً. يذكر انّ المعركة وثقتها هوليوود بفيلم يحمل عنوان «جسر صعب المنال».

أشّرت «عملية ماركت غاردن» على عدد من الثغرات، آنذاك، والتي تجد صدى لها في الآونة الراهنة. أهمّها عدم تناسق التوجيهات والاتصالات بين مجموعة غير متجانسة في اللغة والعادات، مع العلم انّ القوات الاميركية والبريطانية على جسر نيميغن كانت تتكلم اللغة الانكليزية المشتركة، فما بالك ان تعدّدت اللغات المتداولة كما هي حال حلف «الناتو» لا سيما مع دول اوروبا الشرقية، ومآل مهام السيطرة المنوطة بالوحدات المختلفة في ظرف زمني قصير لا يحتمل اي فجوات او نواقص. باستطاعة قوات التدخل السريع للحلف القتال وصدّ هجوم روسي محتمل، لبضعة أيام، بيد أنها ستواجه مخاطر نفاذ ذخيرتها وإمداداتها. لعلّ الأهم، ما ينتظر القوات الرديفة والتعزيزات المتعددة من مهام أشدّ تعقيداً من القوات الخاصة في المسرح الميداني.

ربما تطوّرت العلوم العسكرية في النظريات والتطبيقات والتكتيكات المتبعة، منذ ذلك الزمن. بيد انّ الطبيعة البشرية وما تتطلبه من زمن لاستيعاب كلّ ما هو جديد ومتطوّر لا تستطيع تجاوز آفاق العقل البشري ليواكب سرعة الابتكار والتقنية.

عند إقدام حلف «الناتو» على دخول معركة مع روسيا للسيطرة على بعض أراضيها في ظلّ غياب شبه تام للدعم الجوي فانه يجازف بأرواح نحو 4،000 من جنوده فضلاً عن الضحايا الآخرين.

اذن، قوة حلف «الناتو» الموعودة ربما تجد مآلها في البعد السياسي كرسالة تطمين لأعضاء الحلف أكثر مما هي قوة حقيقية باستطاعتها تنفيذ مهام ذات طبيعة عسكرية ضمن سياق خسائر محسوبة تستطيع تعويضها. بعض التوجهات في حلف «الناتو» تنظر الى نشر قوات برية صغيرة الحجم بصورة دائمة في أراضي دول اوروبا الشرقية، استناداً الى توفر المعدات والإمدادات المطلوبة في متناول اليد.

سيد الكرملين وقادته العسكريون يدركون ذلك من دون ريب. وقد يتريّث قليلاً لإعادة النظر بقوات حلف «الناتو»، لكن من المرجح ان يمضي قدماً في مواجهاته من دون حسابات تلجمه لتحقيق استراتيجية بلاده.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى