الرئيس العماد عون ومسيحيّو الشرق
ناصر قنديل
– الوجود المسيحي في الشرق واحد من العناوين الدائمة على جداول الأعمال السياسية والاستراتيجية والاستخبارية للدول والقوى المعنية بالصراع على مستقبل الشرق وهويته، كمنطقة مركزية في لعبة المصالح والأدوار في العالم، وقد جعل التوازن الطائفي الدقيق من لبنان الساحة الأهمّ التي ترسم فيها معالم دور هذا الوجود، وعبر هذا الدور التأشير إلى هوية الشرق المرتجى من زاوية نظر اللاعبين الدوليين والإقليميين والمحليين. وقد عرفت الساحة الثقافية والفكرية والسياسية والاستراتيجية والاستخبارية، مجموعة مدارس وتوجهات يتغيّر أصحابها وقادتها ورموزها، لكنها تبقى قابلة لاحتواء الخيارات المتقابلة في مقاربة هذا الوجود وعبره الدور ومن خلالهما مستقبل الشرق وهويته.
– تقدّمت المدرسة الكيانية المنغلقة منذ منتصف القرن التاسع عشر وزمن حكم المتصرفية لتخاطب المسيحيين، بوصفهم أقلية تعيش خطراً وجودياً وسط كثافة غالبية مسلمة لا يحقق لها التوازن إلا الاستناد لحماية الغرب، باعتبار المشترك الديني الذي يربطها بالغرب أبعد مدى من المشترك الوطني الذي يربطها بمسلمي بلادها. وقيّض لهذه المدرسة أن تدمج خطابها مع خطاب كياني لبناني يقدّم الخشية من ذوبان الكيان اللبناني في أيّ صيغ عربية جامعة ويخلط بوعي بين لبنان كوطن لأبنائه أو كوطن للمسيحيين يعيش فيه مسلمون، أو كتجمّع للأقليات، وصولاً لاعتباره أحياناً نموذجاً شبيهاً بـ «إسرائيل»، حيث «الأقلية اليهّودية» مهدّدة من غلبة مسلمة داخل فلسطين أو في المدى العربي الأعمق والأوسع. وكتب لهذه المدرسة أن تقود السياسة في لبنان زمن الاستقلال، ولو في الظلّ وصولاً للحرب الأهلية، وانتهاء بالتداخل مع الدور «الإسرائيلي» قبيل الاحتلال وخلاله.
– المدرسة الموازية لهذه المدرسة التي عُرفت بالانعزالية، كانت المدرسة الإسلامية التقليدية التي تنظر للوجود المسيحي في الشرق بتناوب بين منهجَيْن، منهج اعتبارها زائدة ثقافية دينية جمالية تساهم في تحسين علاقات الغرب بالشرق، وتلعب دوراً اقتصادياً وازناً مقابل هذه المهمة، وترتضي بمشاركة سياسية شكلية سواء في التحوّل التدريجي للحركات القومية العربية من حركات أطلقها مسيحيون تحت شعار الهوية الجامعة إلى حركات تعبّر عن تطلعات الشارع الإسلامي بخطاب عروبي، وتتحوّل في قلبه النظرة نحو مسيحيّي الشرق من شركاء المشروع إلى أمانة أخلاقية يجب حفظها، في نظرة محدّثة ومنقّحة لمفهوم أهل الذمة.
– على هامش هاتين النظرتين والمدرستين ولدت مدارس فكرية وثقافية، تقترب وتبتعد عن كلّ منها بدرجة أو بدرجات، لكنها بقيت عاجزة عن التحوّل إلى خط بياني ثابت قادر على صناعة السياسة منها المقاربات التي قدّمها ميشال شيحا والتي تقف على أرض لبنانية تخاطب المسيحيين والعرب بلغة فرادة لبنان كساحة ومساحة اختبار لصناعة المصالح المشتركة، ويختلط فيها مشترك مسلمي لبنان مع العروبة ومشترك مسيحيّي لبنان مع الغرب، في علاقة تبادلية سلمية لبناء ثقافي وسياسي يكشف الخطر «الإسرائيلي»، لكنه يعتبر مصلحة العرب بلبنان ذي وجه مسيحي، ومصلحة المسيحيين بالانفتاح كأهل تجارة وثقافة على العمق العربي، حيث مصالحهم الحقيقية، لا في الغرب حيث سيبيعون المياه في «حارة السقايين»، وبالموازاة أيضاً مدرسة العلمانيين اليساريين واليمينيين والوسطيين، الذي يدعون لتهميش الموروث الديني وينكرون عليه حضوره الثقافي، ويعاملونه كوباء لا مكان للتقدّم بوجوده في الساحة السياسية.
– بين النظرتين المسيحية اللبنانية المدمجة والعروبية الإسلامية المدمجة، نمت وترعرت السياسة في لبنان سلماً وحروباً، لكن بقيت مساحة تضجّ بالحياة تنكر على هاتين المساحتين احتكار المشهد اللبناني والمشرقي، وهي المساحة التي خرج زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده مع تاريخ تأسيس الحزب، يبشر بها. مساحة تقوم على صياغة هوية قومية جامعة لسكان أصليين لهذه البلاد، مسيحيين ومسلمين، أعراق وأتنيات وموجات بشرية تشاركت في صناعة حضارة واحدة، تراكمت طبقاتها، وتلاطمت أمواجها، وتحدّدت عداواتها، بقيام كيان غاصب في فلسطين، و«استعمار» متطلع للهيمنة، وتطرف عابث بوحدة النسيج الوطني ومشاريع تقسيم إلى كيانات مصطنعة، وتفتيت الكيانات إلى طوائف وملل متحاربة، ومثلما نجحت حركة أنطون سعاده في مخاطبة مسيحيّي الشرق حتى زاحمت الحركات الانعزالية المهيمنة والمدعومة من الغرب على قيادة المسيحيين، بينما وطدت حضورها القوي بين المسلمين، وصار الحزب السوري القومي الاجتماعي، حيّزاً لحياة جديدة لا تمييز فيها بين الناس على أساس طوائفهم التي لا تكاد تعرفها، وتعرف المنتمين إليها من المحازبين، ولأنّ لهذا الحزب القائم على عقيدة الاندماج في مشروع قومي بوصلته فلسطين صار مبكراً في عين العاصفة، وتحت مجهر التصويب، ليلاقي ما لاقاه من تنكيل وحروب خيضت لتصفية وجوده.
– جاء المشروع التكفيري من جهة، والصفقة التي عقدها الغرب معه ومع مشغّله السعودي، ومع المشروع الصهيوني من جهة مقابلة، وتلاقيهما على تهجير مسيحيّي الشرق، ليقسم المقاربات المعروضة على مسيحيّي الشرق بين دعوة للرحيل، ودعوة للتجذر في الأرض، ومقاومة المشروع التكفيري المدعوم من الغرب و «إسرائيل» والمشروع الوهابي، وبينهما دعوات بهلوانية من نوع «لا تخافوا منهم هؤلاء حلفاؤنا»، كصرخة رئيس القوات اللبنانية الموجّهة لأهالي الأشرفية في مواجهة غزوة التكفيريين في الخامس من شباط 2006، وتموضعه في جبهة سياسية تقف تجاه المشروع التكفيري المندفع بقوة لتخريب الشرق من بوابة سورية، شعارها ما قاله حلفاء جعجع عن جبهة النصرة كمعارضة سورية، و«ثوار» حرية أثناء تمدّدهم في عرسال، والدعوة لمعاملتهم كممثل شرعي وحيد للشعب السوري، ليشكل لقاء العماد ميشال عون مع السيد حسن نصرالله في اليوم الثاني لغزوة الأشرفية المقاربة المقابلة، القائمة على إدراك الخطر «الإسرائيلي»، ومشاريع التفتيت، ويترجم هذا التلاقي في المواقف الثابتة للعماد عون في حرب تموز 2006، ويتطوّر هذا التلاقي مع اندلاع الحرب في سورية إلى إدراك مشترك لأهمية مواجهة التطرف التكفيري، كوجه من وجوه الإرهاب الذي يهدّد النسيج الوطني وجودياً.
– يمثل المسار الفكري للعماد ميشال عون، حالة اختبار وجدانية فلسفية تصوفية مناضلة، منطلقة من موقع لبناني مسيحيّ، نقية من شوائب التلوّث بعقدة النقص تجاه الغرب، ولا تقبل منطق الاستلحاق الأكثري للمشاريع الإسلامية الطائفية، ومتقدّمة في إدراك الخطر الصهيوني. ونقطة الانطلاق هذه في قلب متغيّرات حركية ودينامية فرضتها عليه أدواره السياسية في الثمانينيات، التي تحوّلت زعامة شعبية راسخة، لتفرض عليه مواصلة الاختبار من باب استمرار زخم الحضور وحجم المسؤولية، فيكون المخاض الذي بات ممكناً له أن يمسك بناصية اختباراته بعد عقدين من الزمن العاصف، ويصوغ مشروعه الخاص، الذي تشكّل ثنائيته مع مشروع المقاومة بعده الاستراتيجي، فيما تقع كلّ تفاهماته الأخرى في باب السياسي، ويضعه تحدّي مستقبل مسيحيي الشرق الوجودي أمام دور يستحضر عملياً مشروع أنطون سعاده، ولو بمفردات مختلفة، وأحياناً بالمفردات ذاتها، لأنها الروح ذاتها المتمرّدة على المشاريع المفروضة بقوة المستعمر أو بنار الإرهاب.
– العماد ميشال عون في الرئاسة اللبنانية فرصة لنهضة، تقوم على معادلة أنّ تصدّر مسيحيّي الشرق للمسؤوليات الوطنية والقومية بوجه المشاريع الأجنبية، يتكفل بتصويب مقاربة مسلمي الشرق لمواجهتهم مع هذه المشاريع وتأكيد الهوية الوطنية والقومية الجامعة في وجهها، وأن رفض سياسات الاستلحاق نحو الخارج للمجموع الوطني والقومي، يقترن برفض سياسات الاستلحاق البينية، بين مكوّنات هذا المجموع، سواء داخل الكيانات الوطنية نفسها، أو بين بعضها البعض، ومثلما وجد القوميون من موقع بوصلتهم المقاومة في سورية بقيادة الرئيسين حافظ الأسد وبشار الأسد حليفاً وسنداً، وفي حزب الله شريكاً في الحربين على «إسرائيل» والإرهاب، يجدهما العماد عون بعداً وعمقاً طبيعياً لموقعه ومشروعه. ومثلما يحمل التيار الوطني الحر البعد السياسي لخطاب مسيحي لبناني عوني ممتدّ منذ الثمانينيات، حامل أثقالها لكنه متفاعل في الوجدان مع المستجدات والتحالفات، يشكل خطاب أنطون سعاده المقاربة الفكرية الرؤيوية لملاقاة المهام التي يتطلع إليها ميشال عون المشرقي، وليس ميشال عون المسيحي اللبناني، فعون المشرقي هو التحدّي اللبناني والمشرقي معاً، لهذا وصفه «الإسرائيليون» بأنه سيكون سبباً كافياً لوجع رأس جديد لـ «إسرائيل».