ليبرمان… بذخ الاستيطان لفوات الأوان
عادل سمارة
في المقابلة التي «منحها» وزير الحرب الصهيوني أفيغدور ليبرمان لجريدة فلسطينية يوم 24 تشرين الأول/ أكتوبر 2016 قال: «لن نتوسّع لكن ستبقى معاليه ادوميم وجفعات زئيف، واريئيل وغوش عتصيون».
طبعاً هذه مدن استيطانية، ولكن، ما الذي بقي كي يتوسّع الاستيطان فيه؟ دعك من المناطير والمستوطنات الصغيرة والمتوسطة التي بوضعها على الخريطة وُصفت الضفة الغربية كجلد النمر. فالمدن الاستيطانية التي تحدّث عنها ليبرمان وحدها كافية لشطب جغرافيا الضفة الغربية. معاليه أدوميم الخان الأحمر تقطع الصلة بين الأردن والقدس وتفصل الضفة الغربية وسطاً وشمالاً وجنوباً. جفعات زيف مدينة تتمدّد الآن لتربط القدس غرباً إلى الخط الأخضر 1948 والقدس طبعاً تتصل بمعاليه أدوميم، أيّ قطع الضفة من وسطها. وأريئيل مدينة تبتلع شمال الضفة الغربية، وغوش عتصيون تسيطر على جنوب الضفة الغربية وتقطع أوصالها. فما الذي يحتاجه العدو ليتوسّع رغم أنه سوف يتوسّع.
وتقطيع الضفة هكذا يحقق أمرين في منتهى الخطورة:
الأول: أنّ هذا التقطيع يقسم الضفة الغربية عرضياً، بحيث يكون شمالها متصلاً بشمال الأردن ووسطها بوسطه وجنوبها بجنوبه بينما أجزاء الضفة الثلاثة منقطعة بالمستوطنات عن بعضها البعض. وهذا يتساوق مع خلق امتدادات/ استطالات كيانية بين الأردن والضفة الغربية منفصلة واحدتها عن الأخريات، لتكون عبارة عن ممرات للمنتجات والحراك الصهيوني من فلسطين للأردن إلى المشرق العربي والجزيرة على أن تكون هذه كيانات لا دولاً، وبهذا لا تقوم دولة فلسطينية صغيوووورة ولا يبقى الأردن دولة ذات سيادة حقيقية بل محيط هلامي للكيان. أيّ أننا أمام فقدان الأردن كذلك لكيانيته وسيادته.
وربّما تلقي الفقرة التالية من اتفاقية وادي عربة ضوءاً مفيداً على ما أجادل به:
« … ففي 25/7/2013 تمّ الإعلان عن تدشين أول منطقة صناعية صهيونية فلسطينية أردنية مشتركة في منطقة أريحا، وسيتمّ في هذه المنطقة تصنيع المنتوجات الزراعية، وهذا المشروع سيُقام على ثلاثمئة دونم من أراضي مشروع موسى العلمي وبتمويل ياباني. وهذا المشروع يأتي ضمن مشروع ضخم ستقيمه اليابان تحت اسم «ممرّ السلام والازدهار» وقد حضر حفل التدشين في ذلك الوقت كلّ من وزير الطاقة الصهيوني سيلفان شالوم ووزير الداخلية الأردني حسين المجالي والوزير الفلسطيني محمد ابو رمضان ووزير الخارجية الياباني بوميو كيشيد». أنظر مناف مجلي: ورقة اقتصادية: في اتفاقية وادي عربة وفي المادة 7 عنيت بالاقتصاد. نشرت في كنعان النشرة الألكترونية، العدد 4297 الأول من تشرين الثاني/ نوفمبر 2016 .
مما يفيده هذا المقتطف أنه يبيّن دور اليابان في التقسيم الامبريالي الأميركي لأدوار الثلاثي الامبريالي في أوسلو ـــ ستان كما فرضته الولايات المتحدة، فامبريالية اليابان إلى البنية التحتية، وامبريالية الاتحاد الأوروبي للأمور الفنية والتقنية والمحلية، والامبريالية الأميركية للأمن.
والثاني: أنّ هذه المدن الاستيطانية مضافة إليها مدن «نسيها» ليبرمان أو اكتفى بما ذكره، مثل جيلو قرب بيت لحم، ومودعيم على خط 48 غرب رام الله. هذه المدن جميعها مبنية على الخط الأخضر ومتمدّدة في الضفة الغربية، ايّ انّ الهدف الاستراتيجي منها هو مسح الخط الأخضر الذي يسمّونه «حدود 4 حزيران 1967»، أيّ هو ضمان عملياً لقضم الضفة الغربية وحيلولة تماماً دون أية إمكانية لإقامة دولة في الضفة، كما يتخيّل دُعاة الدولة الفلسطينية. وقد كتبت عام 1982 في مجلة «العهد» التي كانت تصدر في القدس بأنّ الاحتلال يقوم ببناء مدن فوق الخط الأخضر لمسح هذا الخط، كما أنّ المستوطنات عموماً تغمر السوق المحلي بمنتجاتها مما يهدّد بتصفية مواقع الإنتاج المحلية الفلسطينية.
هناك جدال طويل بين الفلسطينيين في نطاق: هل وضع الكيان الصهيوني قبل حرب حزيران، أو بعدها مباشرة، خطة لسياساته في الأرض المحتلة 1967 أم أنه طوَّر خططه وسياساته بناء على الظروف والتطورات؟
وأعتقد أنّ النقاش في هذا الأمر، وحتى الاتفاق عليه، ليس هو لبّ المشكلة. لبّ المشكلة كامن في مكان آخر هو أنّ للعدو سياسة واحدة ثابتة وهي قضم كلّ الأرض، بمعزل عن متى يتمكّن من الضمّ النهائي تاركاً الثرثرة في الحلول للفلسطينيين والعرب، وهو يقرأ مقترحات الحلول ويقهقه. حلول الدولتين أو الدولة الديمقراطية، الدولة العلمانية، الدولة المشتركة مع المستوطنين، الدولة ثنائية القومية، الفدرالية الرباعية، حلّ الدولتين إلخ… لقد حوّلنا أنفسنا إلى صانعي حلول على الورق.
هذا مقابل احتلال استيطاني عملي وصاحب مشروع لا يتبدّل. فقد وضعت سلطات الاحتلال يدها مباشرة بعد احتلال 1967 على جميع الأراضي التي كانت تابعة للحكم الأردني أراضي أميرية في الضفة الغربية وعلى ما كان تحت إدارة الإدارة المصرية في غزة.
وقد بدأ الاستيطان حوالي مدينة القدس مباشرة بعد حرب 1967، وبدأت إقامة المستوطنات في الأغوار مع نهاية عام 1969.
فسياسات الاحتلال هي مصادرة الأرض وتغيير طبيعتها كحيّز جغرافي تغييراً متواصلاً حتى لا يبقى منها شبر. وهو أمر يجب ان نكون نحن الأشدّ انتباهاً وشغلاً عليه، موضوع الأرض وليس العدو. ولكن، حتى حين كان يثير البعض هذه المسألة، لا حياة لمن تنادي.
كانت لكاتب هذه السطور تجربة في هذا الصدد. فحينما ردّت الأنظمة العربية الرافضة لاعتراف السادات بالكيان الصهيوني في اتفاق كامب ديفيد، وتكوّنت إثر ذلك اللجنة الأردنية الفلسطينية المشتركة 1978 بتمويل عراقي غالباً. أخذت هذه اللجنة تدفع أموالاً للمناطق المحتلة تمّ تخصيص جزء منها لإقامة ضواحي بجانب المدن. وبالطبع لا يستطيع شراء مكان البناء سوى مَن هو من الطبقة الوسطى فما فوق لأنّ القروض وهي ديون معدومة كانت تُدفع لكلفة البناء. لذا أُقيمت ضواحي معصرنة إلى جانب المدن.
حينها كتبت بحثاً وأرسلته إلى م.ت.ف. في بيروت ملخصه إقامة قرى صغيرة على قمم الجبال التي من المتوقع أن يستوطن عليها الاحتلال بدلاً من تلك الضواحي المعصرنة، وهذا يغرس الشباب في الأرض سكناً وشغلاً إلخ… حتى حينه لم يكن الكيان قد وضع أوامر عسكرية تحدّد الأماكن المسموح البناء فيها، كما حصل لاحقاً، حيث يتمّ تحديد مسطحات القرى بالسنتيمتر. وقد نشرت بضع صفحات من ذلك البحث في أحد كتبي:
«… المطروح هنا هو تكثيف وتركيز التوطين العربي مقابل الاستيطان العبري. وهذا يتطلب الجُماعيات التعاونية ومجالس العمال. يتطلب إنقاذ القرية كوحدة إنتاح أساسية وبناء القرية الجديدة المجالسية كوحدة إنتاج أساسية وجديدة.
يجب إعطاء الأولوية لبناء الجماعيات الجديدة في المناطق التي يخطط عملياً الاحتلال لوضع اليد عليها ومعرفتها ليست بالأمر الصعب على أيّ حال. إنّ مشروع الاحتلال الذي يهدف بناء مدينة «إسرائيلية» إلى جانب كلّ مدينة عربية مثل بيت إيل بجانب رام الله ومستوطنة الراس بجانب بيت جالا، وكريات أربع بجانب الخليل وألون موريه بجانب نابلس، لا يختلف عن بناء «الناصرة عليت» بجانب الناصرة العربية في المحتلّ 1948. فالهدف الاحتلالي إذاً هو بناء مدينة جديدة الى جانب القديمة لقتلها مع الزمن، هذا المشروع يجب الردّ عليه بالتوطين المحلي في ضواحي مختلف المدن القائمة ولتكن في البداية وحدات سكنية بأقلّ كلفة ممكنة، مما يحتِّم أن تكون مساكن عمالية أكثر منها «فيللات» لشريحة محدّدة وثرية من المجتمع. وهنا لسنا ضدّ السكن الخاص أيضاً اذا ما تعذر الشكل الجماعي، كما يمكن أن تقام فيها مزارع تعاونية او خاصة كذلك. والشيء نفسه في الريف، حيث يجب ان تقام الجماعيات الزراعية في الأماكن التي يتوقع أن يستوطن الاحتلال فيها… من الأفضل اعتماد البناء الأفقي اكثر من الرأسي لتغطية أكبر مساحة ممكنة من الأرض». أنظر كتاب عادل سمارة، اقتصاديات الجوع في الضفة والقطاع، منشورات دار مفتاح، 1979، فصل مقترحات، 208 247. باب تركيز التوطين العربي في مواجهة الاستيطان العبري ص 224-227 .
لكن، ما من أحد أعار هذا التفكير بالاً. لذا، نرى اليوم المناطير الاستيطانية والمستوطنات في عموم الضفة الغربية.
وهكذا، كما أشرت أعلاه، فإنّ ليبرمان ليس مضطراً للحديث عن المدن أو القرى الاستيطانية كلّها، لأنه للأسف ليس بحاجة لطلب إذنٍ بالتوسع.