التعويل على حكمة الرئيس وعناده

د. رائد المصري

ليس من باب النكايات السياسية والإعلامية أو من باب التشاؤم في المستقبل السياسي للقوى والأحزاب في لبنان القول إن ما جرى أسَّس لعملية إحباط وخنوع وحتى إذلال، من خلال التسوية الرئاسية أو إعادة تموضع وتكليف زعيم تيار المستقبل سعد الحريري لترؤُّس الحكومة.

وليس كذلك من باب الراديكالية والتطرُّف في الموقف لناحية تقييم الحاصل منذ انتخابات الرئيس العماد ميشال عون لملء كرسي قصر بعبدا. فالجنرال الرئيس بصبره وعناده السياسي ومثابرته على تحقيق الإنجازات السياسية في مراحل تاريخية قاربت الثلاثين عاماً. وهو الذي يتمتَّع بنزعة وشخصية مختلفة استقلالية باتخاذ القرارات حتى لو كانت متباينة مع حلفائه في الرأي والموقف وفي زوايا كثيرة مرَّت بها هذه العلاقة بورقة التفاهم.

ولا بدَّ من القول إنه لو تَرك الرئيس العماد ميشال عون مصيره السياسي ونضالاته الداخلية خاضعة لأمزجة الحلفاء في لبنان، وعلى رأسهم حزب الله، لكان عجز عن ربح مختار في حيٍّ أو دسكرة، ولكانت قوى 14 آذار جرَّدته من أيِّ مفعول سياسي لبناء مستقبل تياره. فالكل يعرف كيف خاض الجنرال عون معركته الانتخابية النيابية بوجه الرئيس اللبناني الأسبق أمين الجميل في المتن وانتصر عليه فيها، رغم معارضة الحلفاء له في هذه المعركة. واليوم يقدم حزب الكتائب المثل الأبرز عبر محاولته تعثير انتخاب الرئيس عون في البرلمان ولُهاثه بعدها للحصول على كعكة في الحصة الوزارية المؤلفة، وغيرها الكثير من القضايا والمفاصل التي تطلَّبت تصلُّباً وعناداً عونياً في أكثر من محطة.

في مجمل القول إنَّ ما جرى حتى الآن لا يرتقي إلى حجم التضحيات والشهداء الذين ارتقوا في سورية، في معركة وجودية ضد التكفيريين فرضها الاستعمار الأميركي وأدواته المحلية، ومنهم قوى 14 آذار والرئيس سعد الحريري، والذين نزلوا بكلِّ ثقلهم وانخرطوا في معركة التكفير في سورية لأسقاط الرئيس بشار الأسد تمهيداً للاستدارة على مشروع المقاومة في لبنان وعلى القوى الحليفة له.

لا يستطيع المرء أن يتفهَّم فعلاً، وبعد كلِّ عناء، الموبقات السياسية التي ارتكبها الحريري ومشروعه السياسي ونصف العسكري وكلِّ قوى 14 آذار بحق اللبنانيين وبحق الشهداء وبحق المقاومة في انخراطهم لإسقاط وتدمير الدولة السورية. هذه المساهمة في إعادته رئيساً للحكومة بعد أن عجز وفشل في كلِّ رهاناته السياسية القاتلة ومشروع محاصرته اللبنانيين على الحدود مع سورية بدءاً من عرسال امتداداً لمنطقة عكار ومحافظة الشمال المحاذية للحدود السورية، في ضريبة دم دفعتها أغلبية اللبنانيين من فقراء ومعدومي الحال في أكبر عمليات تفجير انتحارية واغتيالات وخطف لعسكريين ومدنيين أبرياء، وفي أكبر عملية استحضار وتسهيل لدخول النازحين السوريين وخلق واقع ديمغرافي سكاني بات يُشكِّل خطراً حقيقياً، بحجة مناصرة ما يسمُّونه الثورة السورية ضد النظام.

كيف نرتقي بدماء الشهداء الذين سقطوا دفاعاً عن لبنان بوجه المدِّ التكفيري بالوصول إلى هذه الحالة من الإنجازات المُحبِطة؟ وهل تُكرَّس سابقة سياسية جديدة في لبنان بالعبث بدماء الأبرياء والتضحية بهم في سبيل تحقيق المناصب والإنجازات السياسية؟…

فالبعض رُبَّما يقول إن هذا هو لبنان، بلد التسويات وبلد التوافقات، التي غالباً ما تكون القوى السياسية محكومة لها. وهذا أيضاً أمر خطير كسابقة في السياسة اللبنانية التي يتماهى ويتباهى البعض بها. وهو يعني أنَّ هذا البلد سيبقى على ما هو عليه من دون إصلاح ولا تغيير ويعني استمراراً لعمليات النَّهب والفساد المنظَّم والمحسوبيات المذهبية التي أوصلتنا إلى حالات الانقسام الطائفي المُتعارض مع المنطق المقاوم للمشروع الصهيوني الاستعماري وأداته الجديدة أي الأداة التكفيرية.

اليوم رُبَّما يكون الرهان أيضاً ومن جديد على صبر وحكمة وعناد الرئيس ميشال عون. هذا الرجل الذي نقل الحالة المسيحية في لبنان وسورية والعراق إلى ضفَّة العروبة والمشرقية، للوقوف في وجه المدِّ الحريري الجديد الذي تلحَّفَ زوراً بعباءة الاعتدال، والذي لم نرَ أيَّ وجه من وجوههِ سوى الإلغاء السياسي لقوى وطنية عروبية في الشمال والبقاع وبيروت ونزعها عن الخريطة، كذلك لم نرَ أي وجه من وجوه الاعتدال سوى الخيار بين الحريرية السياسية وإعادتها واعتدالها المزعوم، وبين قوى التكفير والظلامية والحالات الإلغائية التي عملوا على بنائها منذ أحداث عام 2011 العاصفة في سورية وكانوا أول أداة تخريبية فيها.

ختاماً قبل الولوج إلى وفاق وطني سياسي شامل بين القوى والأحزاب في حكومة وحدة وطنية جامعة، وهو أمر محمود ومهم طبعاً، لا يبقى سوى الرهان على عناد الجنرال الرئيس ميشال عون في وجه هذه القوى المعادية للمقاومة وللعروبة بالوقوف سداً منيعاً بوجهها في مجلس الوزراء ومجلس النواب، لأن التعويل على منطق حزب الله وتدويره الزوايا السياسية، ينتظرها الحذر والترقُّبات والاتهامات الجاهزة، ليشكِّل حالة إحْباط لحلفاء المقاومة بالإضافة لعزلتهم وإلغائهم. وقبل كلِّ ذلك يجب على هذه القوى السياسية كلِّها ومن كلِّ التوجهات الشروع فوراً بإعطاء مَن دفعوا الثمن نتيجة مواقفهم الوطنية والعروبية المقاومة حقهم، بدءاً من قادة الأحزاب والوزراء السابقين والسياسيين الشجعان والذين لم يُخفْهم لا الطفرة التكفيرية التي حاول البعض في لبنان الاستقواء بها عليهم، ولا القرب من مشروع المقاومة التي خسَّرتْهُم مواقعهم وتحصيناتهم، من أجل إقامة التسوية التي تنصفهم، ومعهم كذلك كلُّ الذين أُخْرِجُوا من ديارهم وذلُّوا عنوةً، بسبب آرائهم ومواقفهم والذين لم يعودوا إلى عائلاتهم الى اليوم بعد، في الطريق الجديدة وطرابلس وصيدا والبقاع وغيرها، من مناطق كثيرة هَجَرها أهلُها بسبب الرأي والموقف السياسي في حركة داعشية إلغائية تكفيرية ما زال الكثير من اللبنانيين يعيشون تداعياتها.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى