نائب رئيس الحزب: لتكن أولويتنا وضع الحجر الأساس لنهوض الأمة موحدة قادرة قوية كما أرادها سعاده

نظمت مديرية الدوير التابعة لمنفذية النبطية في الحزب السوري القومي الاجتماعي ندوة بمناسبة تأسيس الحزب بعنوان: «التأسيس ومئوية سايكس بيكو» تحدث فيها نائب رئيس الحزب الدكتور وليد زيتوني.

حضر الندوة، إلى جانب منفذ عام النبطية فخري طه وأعضاء هيئة المنفذية وعدد من المسؤولين، العميد المتقاعد د. أمين حطيط وممثلو الأحزاب في المنطقة ورئيس بلدية الدوير والمخاتير وممثلون عن الهيئات الثقافية والاجتماعية والمصرفية والإعلامية في المنطقه وحشد من القوميين المواطنين.

بعد نشيد الحزب الرسمي والنشيد اللبناني ودقيقة صمت تحية للشهداء، قدم للندوة مذيع المديرية محمد فرحات بكلمة من وحي المناسبة.

بعد ذلك تحدث زيتوني عن معاني التأسيس وقدّم عرضاً تاريخياً لأوضاع المنطقة قبل «سايكس بيكو» ووعد بلفور المشؤوم وبعدهما، وتطرق إلى ما تمر به أمتنا جراء الهجمة الإرهابية التي تستهدف تفتيتها. وتناول من منطلق عقائدي أسس المواجهة لحماية الأمة من التشرذم والتقسيم وحيا الشهداء الذين يبذلون دماءهم في لبنان والشام وفلسطين والعراق لحماية الأمة من الإرهابيين.

وقال زيتوني: يسعدني اليوم أن أكون بينكم، رفقاء وأصدقاء في الدوير، البلدة التي أعطت الوطن قامات كبيرة في السياسة، وشوامخ في العلم، وقادة في الميدان وأبطالاً في المقاومة .

إلى الدوير وأهلها أحمل تحية وتقدير قيادة الحزب وفي مقدمتها رئيس الحزب الأمين علي قانصو، هاتفين معاً لتحي سورية.

وسورية ستحيا ما بقي هذا الدم القومي فراتاً هادراً دافقاً في شرايين الأمة، فمن صفد إلى صدد، ومن بابل إلى بيبلوس، ومن كسب إلى النقب، ومن ماردين إلى عمان، مقاومة قومية واحدة لعدو واحد متعدّد الرؤوس.

هذه القومية أرادها سعاده طوق نجاة لأبناء شعبنا التائقين إلى الحرية والعز والكرامة. أسس أنطون سعاده قضية تساوي وجودنا على قاعدة فكرية علمية قلّ نظيرها في هذا الشرق، وأسّس حزباً يحمل هذه القضية في معارج الصراع حتى الانتصار، وأسّس نظاماً اعتبر أهم أعماله بعد وضعه للقضية القومية مفهوماً أخلاقياً لبناء إنسان جديد يكون نواة الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، المعبّرة عن حقيقة هذا الشعب وطموحاته بعد أن فكّكها الاستعمار وبعثرت قوّتها الأمراض الاجتماعية الوافدة مع الجيوش الأجنبية.

فكيف كان الواقع؟ كيف كان المشهد السائد لحظة التأسيس؟ وكيف نقرأ الاستراتيجيات الراهنة من خلال المنهج الذي وضعه لنا أنطون سعاده؟

دشنت الحرب العالمية الأولى مرحلة ضياع الهوية القومية في منطقتنا باتفاقية احتفالية أسمتها سايكس- بيكو. اتفاقية وضعتنا على خط الاشتباك الاستراتيجي المحدد بجغرافيا الطوائف والملل والنحل.

لم تكن هذه الاتفاقية كباقي الاتفاقيات، عقد بين طرفين معنيين بقضية واحدة. ففي هذه الاتفاقية كان صاحب القضية مغيباً بفعل حق القوة المسيطرة عسكرياً. حتى تلك الوكالة المعطاة من قبل عصبة الأمم للانتداب آنذاك، هي وكالة مزورة لأنها اعتمدت مبدأ أسمته قصور القدرة على الحكم. وهي مسألة بل جريمة فيها نظر.

فعصبة الأمم تشكلت من الدول المنتصرة في الحرب . وقد أثبتت الأيام والوقائع التي تلت قيامها أنها منظمة فاشلة وجائرة وغير متوازنة، وأدّت فيما بعد إلى اندلاع الحرب العالمية الثانية كنتيجة طبيعية لانحرافها عن الأهداف المعلنة التي غلفتها. باختصار إنها منظمة باطلة وقد أبطلت نفسها بنفسها. وعليه تصبح الوكالة الصادرة عن أساس باطل باطلة حكماً لغياب التبرير القانوني الذي ساقته هذه المنظمة.

ورغم ذلك ظلت الإجراءات المتخذة من قبلها قائمة في بلادنا، ومنها الوكالة عن الدول المستضعفة والضعيفة. بل أكثر وأخطر من ذلك، ظلت الدول المنشأة بتدبير من أصحاب الوكالة الباطلة قائمة فعلاً على أرض الواقع رغم بطلان السند القانوني، ويصبح لبنان «الكبير» مثلاً، دولة بقرار صادر عن المندوب السامي الفرنسي.

نتائج الاتفاقية لم تكن وليدة ساعتها

غير أن النتائج التي رسمتها الاتفاقية لم تكن وليدة ساعتها عام 1916، إنما كان التحضير لها على قدم وساق من أمدية بعيدة زمنياً. ففي لحظة بروز الدولة القومية في القرن التاسع عشر لم نكن جاهزين مادياً ومعنوياً لتلقف فكرة التحول العالمي الحاصل على المستوى السياسي. وبالتالي لم نتلمس بعد، معنى ومضمون الهوية القومية للأسباب التالية:

أولاً: وجودنا تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية التي كانت تعاني سكرات الموت نتيجة لأوضاعها الاقتصادية المتردية، وخسارتها العسكرية أمام القوى الاستعمارية آنذاك، خاصة تدمير أسطولها البحري في نافرين عام 1826، ومن ثم عدم استقرار أوضاعها الداخلية إثر انقلاب الثلاثي القومي الطوراني على الخلافة العثمانية المتلبسة اللبوس الأيديولوجي الديني.

ثانياً: تدخل الدول الكبرى في المناطق التي تسيطر عليها الخلافة العثمانية تحت عناوين رعاية الأقليات الطائفية، ومن خلالها، ركزّت على المستشرقين والدلالين والإرساليات لضرب البنى الجيوثقافية الموجودة، التي كانت تحتفظ لتاريخه بخصوصياتها القومية .

ثالثاً: كانت المنطقة تعيش حالة اقتصادية مزرية كمحصلة للجشع الإمبراطوري العثماني من جهة، وكنتيجة للهجمة البدوية الصحراوية التي قامت بها قبائل العنزي القادمة من الجزيرة العربية من جهة أخرى، حيث فاقت بهمجيتها واتساعها ما فعله هولاكو. لقد دمرت هذه الهجمة سبعة آلاف قرية وبلدة من حلب شمالاً إلى صفد وحيفا ويافا جنوباً، فحرقت جميع المحاصيل الزراعية وقطعت الأشجار ونكّلت بالسكان قتلاً وتهجيراً تحت الرعاية العثمانية، وأنظار القناصل الأوروبيين.

رابعاً: تردّي الوضع العلمي والثقافي ودخول المنطقة في مرحلة الانحطاط بسبب الممارسات القمعية العثمانية وهجرة الكوادر العلمية، وتغلغل ثقافات غربية متعارضة مع القيم السائدة، لم تستسغ حينها من قبل النخب المتلقّية.

خامساً: تحوّل عصبة الأمم إلى منظمة ضامنة لحقوق الدول الكبرى المنتصرة في الحرب، على حساب الدول والشعوب التي كانت تحت مظلة الدول المهزومة، حيث انتقلت هذه الشعوب من استعمار إلى استعمار آخر من دون أن يكون لها أي دور في تقرير مصيرها.

تحت مظلة هذا الواقع، وغياب الأطر السياسية والثقافية والاقتصادية المحلية الناظمة، تمددت المشاريع الجيوبوليتيكية الإقليمية والدولية لتأمين مصالحها، فاشتبكت وتشابكت على أرضنا وعلى حساب مصالحنا ودخلنا في دوامة اشتباك دائم ما زال مستمراً حتى يومنا هذا من خلال دوائر ثلاث.

دائرة ذاتية: تختلط فيها قواعد الصراع ما بين وفي الهوية القومية والهوية الدينية والهوية المذهبية والهوية الإتنية والهوية الاجتماعية مدنية وعشائرية والأنظمة السياسية والاقتصادية والتشكيلات الكيانية التي أفرزتها سايكس بيكو.

دائرة إقليمية تتنازع فيها مشاريع الدول الإقليمية التي بلورت هويتها القومية وعملت على أساسها مثل تركيا وإيران وتلك التي لم تتبلور هويتها وتسعى إلى دور قيادي إقليمي «إسرائيل» ومصر وادي النيل والسعودية ممثلة للجزيرة العربية.

دائرة دولية: وقد تدرّج فيها الاشتباك تاريخياً، من صراع بين الإمبراطوريات القديمة، ثم بعد الحرب الأولى بين الدول الاستعمارية الحليفة التي أنتجت سايكس بيكو، مروراً بالحرب الباردة بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي السابق، وصولاً إلى اليوم بين الجيوبوليتيك الأميركي المدعوم من أوروبا والحلف الأطلسي والجيوبوليتيكي الروسي المتجدد المدعوم من الصين ودول البريكس.

في الواقع ، لايمكن الفصل بشكل كامل بين الدوائر الثلاث إلا لأسباب منهجية بغية توضيح ما يمكن تسميته بهوامش حرية الحركة المرسومة بدقة من قبل الدائرة الكبرى، حيث برزت إشكالية تقدم نفسها على الشكل التالي: هل الاستعمار هو الذي أوجد التناقضات التي تشتملها الدائرة الأولى أم أن هذه التناقضات البنيوية هي التي استجلبت الاستعمار إلى بقعة صراعاتها؟ بمعنى آخر «ما الذي جلب على أمتي كل هذا الويل»؟ كما قال أنطون سعاده، وأردفه بسؤال آخر: «من نحن»؟

هنا تتبادر إلى الذهن، التسميات التي أطلقت على هذه المنطقة. من الشرق الأدنى إلى الشرق الأوسط الجديد والشرق الأوسط الكبير أو الموسع والتي إن دلت على شيء فإنها تدل على مضمون المشروع الجيوبوليتيكي واستهدافاته. هي تسميات جغرافية متعالية تؤكد على مركزية الغرب وتبعيتنا، وبالتالي ترسم حدودنا استناداً إلى خطوط أمنها القومي بالجيوش الجرارة والأساطيل المنتشرة في البحار المحيطة والهيمنة السياسية والسيطرة الاقتصادية على برّنا. وعليه استناداً إلى حقائق التاريخ والجغرافيا والفكر العلمي الجديث سنستعيد تعبير «سورية الطبيعية « كاسم لهذه المنطقة، باعتبار هذا الاسم الأكثر التصاقاً بحضارة المنطقة وثقافتها.

لا شك، أن الاستعمار بأشكاله كافة، قد ركّز في المرحلة الأولى على تدمير البنى الثقافية الحضارية/ الروحية باعتبارها جزءاً من العوامل المتغيرة في تشكيل الأمة، ليتسنى له في مرحلة لاحقة، النفاذ من التشرذم النفسي والثقافي لتقسيم الجغرافيا بشكل يتناسب مع أهدافه أولاً، وثانياً كي يؤمن هذا التقسيم بقاء الإقليم الجغرافي بعيداً عن إمكانية التفكير باستعادة وحدته .

إن سايكس ـ بيكو وهي اتفاق توزيع نفوذ بين قوتين استعماريتين، لحظت من خلال ترسيمها لسوريا الطبيعية المسائل التالية:

ـ فصل مناطق الجذب الحضارية ما بين النهرين وبلاد الشام

ـ إضعاف العمق الاستراتيجي. لبنان بعمق 40 كلم كذلك فلسطين.

ـ سلخ المناطق الساحلية عن الداخل. مثلاً رغم اتساع العراق فهو لا يملك منفذاً بحرياً يتناسب مع مساحته 4 كلم على الخليج ، الشام 200 كلم على البحر المتوسط رغم أن طول الشواطئ السورية على هذا البحر تبلغ أكثر من 800 كلم.

ـ التحضير من خلال هذا التقسيم لما أصبح واقعاً فيما بعد، دولة يهودية في فلسطين، سلخ لواء الإسكندرون وكيليكية وصولاً إلى ماردين، وربما دولة كردية في الشمال الشرقي.

ـ التقسيم على الأساس الطائفي.

وبالنتيجة، أفقدت هذه الاتفاقية سوريا الطبيعية السيطرة المباشرة على شرق البحر الأبيض المتوسط من خليج الإسكندرون حتى قناة السويس، كما أفقدتها القدرة على التحكم بالممرات المائية وحركة التجارة والنقل، وأبعدتها عن موقع قبرص الاستراتيجي، وحجّمت في الوقت نفسه قدرتها الطبيعية على المشاركة بمياه الخليج والبحر الأحمر.

باختصار وضعت هذه الاتفاقية حداً لمعادلة قوة/ سيادة التي تتمتع بها عادة أمم العالم، وهو ما أفقدها مركزها ودورها الجيوسياسي والجيوستراتيجي بعد أن أفقدها دورها الجيوثقافي الحضاري في العالم، ولم تستطع منذ ذلك التاريخ أن تكوّن وضعاً يليق بها في مرحلة تنازع الأمم للبقاء، بل جعلها في مهب مشاريع الآخرين.

غياب الإرادة السياسية

في ظل التشرذم الحاصل على مستوى كيانات الأمة فيما بينها وداخل كل كيان، وفي ظل الحرب الحقيقة الدائرة على أرضها، يصعب وضع تصور استراتيجي لدور مستقبلي، من دون تحديد نقطة بداية مستقرة ونقطة نهاية واضحة المعالم، موزعة على مراحل تكتيكية زمنية، والعمل بشكل متوازن بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، شرط توفر الإرادة السياسية، والتي يبدو أنها بعيدة المنال حالياً، لارتباط النخب المحلية بمشاريع تكتيكية مفصلة على قياساتها، وعلى حجم طوائفها و«جماهيرها» و«إتنياتها» و«عشائرها»، وارتباط مشاريعها بالخارج.

ويتعذر، في الوقت عينه، رسم النقاط المطلوبة للنهوض، من دون قراءة فعلية متأنية لاستراتيجيات الآخرين الإقليمية والدولية، ومدى تأثيرها ومكامن الضعف والقوة فيها.

تعتبر الاستراتيجية بشكل عام نسقاً فكرياً مخزوناً في الذاكرة الجمعية لشعب ما، وهي بالتالي جامدة نسبياً لارتباطها بالعوامل الثابتة والثقافية لتشكل الأمة. فالموقع والمساحة والطوبوغرافيا والثروة الطبيعية، تماماً كما التطلعات العامة والمصالح، هي التي تقرر أصول الاستراتيجية وجذورها التاريخية والحالية. ومن الطبيعي أن يتغير منهج العمل الاستراتيجي تبعاً للإدارة وتبعاً للظروف الذاتية والموضوعية للأمة فتتحقق عندما تكون الأمة قوية عسكرياً، سياسياً، اقتصادياً، ثقافياً وتتراجع إلى حد تصبح معها الاستراتيجية فكرة معيارية، حين تكون في حالة ضعف أمام الأمم الأخرى أو في حال التشرذم استناداً للعوامل الذاتية، فتسلب إرادتها وتفقد سيادتها وتصبح عرضة لتداخل الاستراتيجيات الأخرى، وهذا في الواقع هو حال أمتنا منذ بداية إدراك معنى الأمة وظهور الدولة القومية الحديثة.

هنا تبرز مسألة الإدراك والفهم والتحليل ومن ثم وضع الأولويات والخيارات على مستوى بناء القدرة الذاتية والعوائق الناتجة عن التدخل الخارجي على قاعدة عقلية بحته لأن العقل هو الشرع الأعلى وهو بالتالي يحدد الغايات والأساليب الواجب اتباعها للوصول إلى الأهداف المرسومة، شرط مرحلتها والعمل على إقامة التوازن بين الغايات الاستراتيجية والأهداف المرحلية من دون طغيان أو تعارض بين الغايات والأهداف مصحوبة بتوفر الإرادة السياسية.

تكاد لا توجد طريقة علمية أخرى للخروج من مأزقنا، رغم أن العوائق الداخلية كثيرة ومتشعبة ومعقدة لدرجة تدفع البعض إلى اليأس. غير أن وجود مشروع بنائي مستهدف واضح المعالم يبعث على الأمل ويشحذ الهمم، خاصة أن شعبنا يتمتع بدينامية عالية، وقدرة أقرب ما تكون إلى المثالية على العمل والمثابرة لإنجاز ما يمكن تصوره ووضعه موضع التنفيذ.

إن العالم لم يعد لعبة شطرنج محصورة بين الأسود والأبيض كما كانت خلال الحرب الباردة وبين قطبين أساسيين فقط، بل تحوّل إلى لعبة أخرى، ما يمكن تسميته بالمكعبات البلغارية، ذات الأبعاد والألوان الستة والتي تلزم لاعبها أن يداخل بين الأبعاد والألوان لتحقيق الانسجام المطلوب والتوازن بين البعد واللون.

يستوجب فهم اللعبة الدائرة في منطقتنا، الإطلالة على المشروع الأميركي الغربي بالدرجة الأولى وتحديد ماهية أهدافه، والتحولات السياسية والميدانية لمساره كونه المشروع الأساس، والأكثر تجذّراً، كي نستطيع من خلال هذا الفهم النفاذ إلى إدراك المشاريع الأخرى الموازية أو المعارضة، ليتسنى لنا فيما بعد تحليل نقاط القوة والضعف فيه وفي مشاريع الآخرين وبالتالي إيجاد المساحة الممكن العمل عليها ومن خلالها لتحقيق مكان لمشروعنا.

اعتمدت الولايات المتحدة، التي تبنت استراتيجية الحفاظ على الدولار والانصهار المجتمعي الداخلي وذلك من خلال النهب الخارجي وخلق عدو دائم، نظرية ألفرد ماهان في بداية القرن الماضي، والقاضية بتطويق الدولة البحرية للدولة القارية البرية ومن ثم العمل على إسقاطها من الداخل، وقد نجحت إلى حد بعيد في تعاملها مع الاتحاد السوفياتي السابق من خلال تعاظم قدراتها البحرية وإنشائها للأحلاف العسكرية الناتو، آسيان، والحلف المركزي وإمساكها بالمفاصل الاقتصادية العالمية وجر القطب السوفياتي إلى سباق التسلح. وبعد هذا النجاح التاريخي تطلعت إلى تطويق الصين، فمددت حلف شمالي الأطلسي إلى دول أوروبا الشرقية وعززت وجودها في جنوب شرق آسيا بالقواعد العسكرية، وذهبت إلى تنظيف المسرح العالمي الوسيط الممتد من حدود الصين إلى البحر المتوسط.

كانت الأهداف التي تسعى الولايات المتحدة الأميركية لتحقيقها في المسرح الاستراتيجي الوسيط وهو المسرح الذي يشمل منطقتنا، تتلخص بالبنود التالية:

ـ الحفاظ على أمن «إسرائيل» وعلى «إسرائيل «كقاعدة عسكرية متقدمة.

ـ أمن الآبار النفطية وأمن تدفقها من خلال السيطرة البحرية وحرية الملاحة التجارية ومسك المنافذ المطلة من وإلى البحر الأبيض المتوسط.

ـ دعم الأنظمة القائمة التي تتبع سياستها للحفاظ على حالة استقرار أمنية وعسكرية تؤمن موجبات النهب السهل للثروات المحلية.

ـ الوصول إلى حل نهائي في «الشرق الأوسط» يرسّخ وجود «إسرائيل».

وزادت الولايات المتحدة على الركائز الأربع السابقة بعد 11 أيلول بنداً خامساً وهو محاربة الإرهاب ، تماشياً مع قاعدة استراتيجيتها خلق عدو خارجي .

إلا أن الأولويات الأميركية قد تبدلت منذ عام 2013 فتصدرتها مسألة محاربة الإرهاب نظراً لبروز ما أسمته بالإسلام الراديكالي على حساب الإسلام المعتدل الذي أصبح يشكل خطراً داهماً على مصالحها في المنطقة وحتى في أوروبا والعالم. وهو ما دفعها بالفعل إلى القبول بعقد مؤتمر جنيف 2، وتثبيت تحالفها مع دول «الإسلام المعتدل» وهو أيضاً ما جعلها في حالة إرباك بعد إزاحة الإخوان المسلمين عن الحكم في مصر.

أما التحوّل الثاني فيبرز من خلال العمل على الحد من انتشار أسلحة الدمار الشامل، وقد ظهر جلياً موقفها فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، وما اتفق مع روسيا حوله لجهة تدمير الترسانة الكيماوية السورية. وهو في الواقع ما اعتبرته إنجازاً لها بإبقاء «إسرائيل» متفوقة عسكرياً لامتلاكها منفردة السلاح النووي، وبالتالي استقرار المنطقة لضمان تدفق النفط .

تراجع دراماتيكي للدور الأميركي وروسيا تستعيد نفوذها

رغم ذلك تراجع دور الولايات المتحدة بشكل دراماتيكي في هذه المنطقة لأسباب عدة منها الأزمة الاقتصادية التي طاولتها بدءاً من العام 2008 نتيجة لحروبها الخارجية في أفغانستان والعراق وتكاليف انتشار قواتها على امتداد العالم . وربما لسبب جوهري آخر وهو بروز منافسين جديين على الساحة العالمية كروسيا والصين والهند وبقية دول البريكس. وقد يكون من الأسباب أيضاً، تراجع أهمية هذه المنطقة استراتيجياً لاكتشاف مصادر طاقة ذات أهمية أكبر، وأسواق تجارة عالمية أوسع في آسيا والمحيط الهادئ.

أما القطب الثاني الذي ينافس الولايات المتحدة الأميركية في المنطقة فهو بالتأكيد روسيا الاتحادية، التي استعادت حركتها الاستراتيجية بعد وصول فلاديمير بوتين إلى الحكم. والاستراتيجيا الروسية هي استراتيجيا ثابتة كما قلنا سابقاً، وتتلخص بالوصول إلى المياه الدافئة. وهي استراتيجيا لم تتغير من عهد القياصرة كاترين الثانية، بطرس الأكبر مروراً بالاتحاد السوفياتي وصولاً إلى الوقت الحاضر مع الاتحاد الروسي. أما أهم الملامح التي تعمل على أساسها روسيا الآن لخدمة استراتيجيتها فتتلخص بالنقاط الآتية:

ـ محاربة القوى التكفيرية لإبعاد شبحها عن الأراضي الروسية وخاصة في الشيشان، التي عانت طويلاً من العمليات الإرهابية.

ـ الاحتفاظ بسورية كحليف استراتيجي مطل على البحر الأبيض المتوسط، وخاصة قاعدة طرطوس التي تشكل عصب الأسطول الروسي على هذا البحر بعد فقدان روسيا قواعدها في ليبيا ومصر والجزائر. وهو ما يفسر وقوفها بقوة مع سورية على المستويات العسكرية والسياسية والديبلوماسية خاصة في مجلس الأمن الدولي.

ـ التواجد وبشكل قوي خلف الدرع الصاروخي الأميركي الممتد من بولندا إلى تركيا مروراً ببلغاريا.

ـ تأمين تدفق الغاز عبر السيل الجنوبي لشركة غازبروم إلى أوروبا، تماماً كالسيل الشمالي الذي يمر في أوكرانيا.

تسعى روسيا الآن إلى استعادة دور ونفوذ الاتحاد السوفياتي السابق مع تجنب الوصول إلى سباق تسلح مع الولايات المتحدة بغية الحفاظ على النمو المضطرد لاقتصادها. غير أن الولايات المتحدة وبتمويل صهيوني استخدمت قوتان محليتان لزعزعة الوضع الروسي: الأصولية الإسلامية المتشددة، والحركات النازية المتشددة في أوروبا الشرقية وفي الجمهوريات السوفياتية السابقة.

أما الاستراتيجيات الإقليمية ورغم أهميتها فهي لا تستطيع العزف منفردة خارج دائرة الاشتباك الدولي. قد تستفيد كل منها من التقاطعات المرحلية بين ما هو إقليمي وما هو دولي، إلا أن حركتها مهما توسعت تصبّ أساساً في خانة الأقطاب الدولية.

من المهم جداً تحليل مقومات العمل الإقليمي، خاصة «الإسرائيلي» والتركي والإيراني والعربي فيما يتعلق بمصر والسعودية وتأثيراتهم على سورية الطبيعية، كما من المهم قراءة الاستراتيجيات الصينية وتطلعات الدول الكبرى الأخرى. غير أنها واقعياً وعملياً ليست خارج أداء كل من الولايات المتحدة وروسيا في الوقت الراهن.

إن الإطلالة السريعة على المشاريع الجيوبوليتيكية المستهدفة منطقتنا ودينامياتها، لا تعفينا من الدراسات المتأنية لكل منها، لكن الأولوية تبقى في وضع الحجر الأساس للخروج من مأزقنا وتبني رؤية واضحة للنهوض على قاعدة الأسئلة التالية:

من نحن؟ أين نحن؟ إلى أين؟ ما هي سبل الوصول؟

ختاماً: بعد مرور ما يقارب المئة عام ، يبدو أننا قد صدقنا فعلة الغرب التي أسماها «سايكس- بيكو»، وعملنا بموجبها، بينما الغرب نفسه الذي أوجدها لم يرتح لنتائجها فجاء الاستعمار، بنسخته الجديدة المتمثلة بالولايات المتحدة الأميركية ليعيد صياغة الجغرافية على أسس جديدة تتلاءم مع مصالحه.

وإن الغد، أمة موحدة قادرة قوية سيدة، كما أرادها أنطون سعاده.

أمة شكلت قلب العالم جغرافياً وبانتصارها سيتشكل النظام العالمي الجديد.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى