ميشال جحا… قاموس تاريخنا الأدبيّ

د. إلهام كلّاب

استوقفني دائماً كما أثار عجبي تعريف القاموس بكلمة قاموس. إذ إنّه ما وراء التعريف المعجميّ، يورد التالي: القاموس هو البحر العظيم… وقامَسَهُ أي: غالبَه في الغوص، وناظَرَه وباحَثَه…

تعريف قد يستجيب إلى ما قصدت في عنوان مداخلتي: ميشال جحا قاموس تاريخنا الأدبيّ.

فالصديق العزيز ميشال جحا، يختزل جدّية القاموس من دون حدّتها، ومعرفة القاموس من دون ابتسارها، وسعة الرؤية من دون تبعثرها، والتفاتة الألفة من دون تنازلاتها.

ولا يقتصر هذا التعريف على متانة اللغة ودقّة التحقّق، قدر ما يعني وساعة البحر، والتفاف الموج وشفافية الماء، وأجنحة الطيور ومفاجآت الأعماق.

ميشال جحا بحّار… مثابر… عنيد… يلقي شِباكه في مغاور الدرر، ويسترشد بكل منارات الشواطئ. لا تقعده الغنائم عن متابعة صيدٍ، ولا تُحدُّ الهِمّة ولا العمر ولا المشقة، من يقظة عينه المتوقدة الساهرة على قطافها الغنيّ.

يرتاد ميشال جحا أفقاً وراء أفق، يفتح مساره باباً وراء باب، موقّعاً بخطواته الثابتة الواثقة جدارية بانوراما مضيئةً وجليلة وجميلة لروّاد في الأدب والفكر والشعر، صاغوا نهضة العرب منذ القرن التاسع عشر وعلى مدى سنوات القرن العشرين. متفقّداً زيت قناديلهم، كاشفاً عن نور أفكارهم، مؤدّياً طقوس الوفاء لريادتهم، سعيداً بلقائهم.

هو حارس غابات الإبداع والمؤتمن على أشجارها. يجتازها مانحاً كلّ شجرة اسمها وسماءها، ساقياً أرضها التي أيبسها النسيان، كي تدوم وتنمو وتفيء بأغصانها على أجيال قادمة، مذكّرةً الفروع بأصالة الجذور.

الأجيال القادمة… ربما شكّلت هاجساً مضمراً لميشال جحا.

هو الأستاذ الذي درّس عشرات السنين، ومئات الطلاب، بعطاء وشغف، كاشفاً عن خبايا تراثنا، مبادراً إلى ردم الهوّة المعرفية التي تفصل بين الأجيال، معرفةً وتجربةً وأدباً وثماراً. يقطفها يانعةً لتقديمها إلى ذائقة الأجيال الجديدة التي بدلها العصر، وغرّبتها الأيام.

لقد ترافق دوماً الهمّ الثقافيّ عند ميشال جحا، ترافق دوماً مع سعي تربويّ، وتوق معجميّ، ونهج روائيّ، وحسّ فكاهيّ، وفكر رائد مناصر لقضايا الأوطان والنساء. وترافق خاصة مع حسّ إنسانيّ رائع لمعنى الصداقة.

أنا لا أذكر منذ متى التقيت الدكتور ميشال جحا. لم أعد أذكر ـ لا لطول السنين ـ بل لعمق العلاقة الإنسانية التي تلفّ بألفة وتوقّد واطمئنان من ستحوّل إلى صديقه. والصداقة كلمة ـ مفتاح في حياة ميشال جحا.

هو يستدعي الأدباء والقرّاء إلى موقع قلبه، وحدّة ذائقته. فهو حازم ودقيق في مواقع البحث والفكر، ودمث ورقيق في مسرى الحياة.

هو لم يحقّق كتاباً ولم يُحيِ ذكرى أديب، إلا لأنه صادقه أو صادق ذكراه أو حوّله إلى صديق. لم يكتب مقدّمات إلا لأصدقاء، أو ربما، لوهج في شخصه يستجلب دوماً الصداقة.

لذا، ففي كلّ ما كتب وتابع وحقّق وصنّف، تتردّد كلمة «صديق» متوّجةً اسمَ كلّ أديب. وكأنّ كلمة «صديق» اسم التعريف الأول الذي يستدرج إلى الأعماق.

عرفت ميشال جحا ولا أذكر منذ متى، صديقاً صدوقاً أَلوفاً أميناً على «الصحبة» والمعرفة، وفيّاً، إنسانياً، لا يسكت عن ضير أو ظلم، خصوصاً إذا ظُلم الآخرون… ومَن دخل إلى جنّى صداقات ميشال، كان غانماً!

في تواضع سَدَنة الهيكل، رفع ميشال جحا قرابين الآخرين وكتاباتهم بتفانٍ وقدرة وتواصل أديب بأديب.

عاصَر ميشال جحا، ونقّب، وكتب، واحتضن كلّ ملمح في النهضة الأدبية والفكرية والوطنية. ولعلّنا في كتاب «مقدّمات» الدليل الجامع والقاطع على معرفته الموسوعية وجرأته الفكرية، وقدرته الاستيعابية، وتنقيبه الدقيق، وأسلوبه الواضح السهل.

ولقد أضحى ميشال جحا موقع ثقة مطلقة، وبالتحديد لمن ترك وراءه إرثاً ـ أو ورث ـ أوراقاً مبعثرة، ومخطوطات، ونصوصاً غير مكتملة، وغبار البيوت المقفلة، والمكتبات المهملة.

يطلب منه سعيد أمين نخلة جمع أوراق والده الشاعر والأديب، وتحقيقها وتقديمها والإشراف على طبعها.

وتطلب منه جمال كرم حرفوش، الجمع الشاقّ لإرث أخيها الراحل عاطف كرم، ويشغل باله التراث المتنوّع وفائق الأهمية لعلي سعد… «الكسول الذي لم ينشر كتاباً». يصدر كتاب «معنّى رشيد نخلة»، الشاعر السماوي، ويكتب المقدّمات ويجعل من كتاباتها فنّاً أدبياً قائماً، يضع له ناموساً، يتجلّى بأسلوبه السلس في سكبها وفي إتاحة تذوّق الأثر الأدبيّ لقارئها.

وما وراء هذه التحقيقات والمقدّمات، نلتقي ميشال جحا الذي يقوم بهذه المهمات المضنية استجابة لعلاقة تقدير أو معرفة أو إكبار أو صداقة.

وتتنوّع وتتشعّب اختيارات ميشال جحا. ففي الشعر غازل قلبه الشعر وشعراء الحداثة مع خليل مطران وأجيال الشعراء من أحمد شوقي إلى محمود درويش، ومن شعراء رحلوا وشعراء أعلام من المشرق العربي. أسماء تلاحق أسماء، وعناوين تؤدّي إلى عناوين. ونَقر الدفّ مع شعراء الزجل فرحاً «بريادتهم» في موسوعاته عن أعلام الشعر العاميّ وروّاده.

وفي الفكر، اهتمّ بالرؤى الفكرية والسياسية الرائدة، في دراسته عن فرح أنطون، وفي نصوص الريحاني، وفي أطروحة خليل حاوي عن العقل والإيمان بين الغزالي وابن رشد.

وفي الأدب، عزّز ميله الأساسي إلى الأدب والدراسات والشخصيّات النيّرة، فجمع كتباً وكتّاباً، وأصدر كتاب «القصّة القصيرة في لبنان»، مؤكّداً ميله إلى المختارات لأنّ كتب المختارات ليست عديدةً في النثر العربيّ.

كما عاد إلى الآباء الروّاد، ابراهيم اليازجي وسليم البستاني، وحقّق وقدّم «الأساتذة في النثر العربيّ» لأمين نخلة. وفي أوروبا درس العلاقات العربية والإسلامية، ولم تَفُتْهُ في ألمانيا دراسة لهجة بشمزّين والتي لا تزال تنشف آذاننا برنّتها الشمالية المحبّبة عند محادثته.

ولكن…

يطعّم ميشال جحا هذه الجدّية بالفكاهة، فلا يخلو نصّ من نصوصه من دعوةٍ إلى ابتسامةٍ متواطئة، أو فرحٍ مكنون.

هو لا يقدّم من الكتّاب سوى من لاقى هوىً في قلبه ويترافق غالباً التقدير الرصين العميق مع انفجار نكتة ما في سياق النصّ. فهو يكتشف أنّ النشيد الوطني لرشيد نخلة يفتقد إلى الأفعال التي لا يرد منها إلا ساورته الفتن، وصانه ربّه، ويتبادل أنخاب الفرح مع المختار كمال ربيز المنصرف إلى أخباره ونوادره وسخريته.

هو لا يحتمل قيداً، وما وراء رصانة القول، يلوح صدقه وحسّه الطبيعيّ وملامح سخرية من حدث أو خطأ. وينفرج النصّ عن ضحكة من القلب.

وميشال جحا ذو حسّ روائيّ، يستوقفنا ويستوقف نصّه ليكمل الرواية.

ويكمن حسّه الروائيّ الواضح في كلّ ما كتب. فهو راويةٌ يتقن المسار والعقدة والمفاجأة. ولقد ألّف كتباً وقدّم كتباً وحقّقها وساعد في فهمها وفي التمتّع بقراءتها، مغلّفاً غياها ببعدٍ روائيّ لا يضير منهجيتها.

وإذ يحمل ميشال جحا، صفة الرواد النهضويين، فهذه الصفة تتجلّى خاصة في تقديره المرأة الأديبة الرائدة، وفي مناصرته لها. لذا، كتب عن عشرات الشاعرات والباحثات والروائيات، وعن كاتبات القصة القصيرة في كتاب «القصة القصيرة في لبنان»، متوقّفاً عند خمس وثلاثين كاتبة قصّة قصيرة. وأصدر بحماسة وفخر كتابين ـ مرجعين، عن امرأتين رائدتين في تاريخ الصحافة والكتابة والنضال: ماري عجمي التي أنشأت في دمشق عام 1910 المجلة النسائية الأولى «العروس». وجوليا طعمة دمشقية التي أنشأت في بيروت مجلة «المرأة الجديدة» عام 1921. وهي أديبة رائدة ومناضلة وإعلامية جمعت في مجلتها أسماء كاتبات معاصرات لها مع أسماء شهيرة كأحمد شوقي وسعيد تقيّ الدين وفيليب حتّي وجبرائيل جبّور وغيرهم.

أخيراً، هذا الشيخ الذي يتحدّانا بشَعره الأبيض الرصين، لا يزال شاباً متيقّظاً حيال أيّ فكر، متحفّزاً لكلّ بحث، سعيداً بكلّ إبداع.

هو يذهلنا بعطائه الدائم، ويخجل تكاسلنا بالتزامه الصارم، ومتابعته الدؤوبة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى