مختصر مفيد عندما تخرج أميركا من الحروب التي أشعلتها
الحرب التي تشنّها تشكيلات تنظيم «القاعدة» في سورية تلتحف بغطاء سياسيّ وفّرته دول كبرى، ومعها دول فاعلة في المنطقة، لعنوان سياسيّ منح صفة «المعارضة السورية»، ودُمِج بتشكيلات «القاعدة». وبموجب هذه العملية التي تزعّمتها واشنطن منذ اليوم الأول للحرب، تحت عنوان الحملة العقابية على الدولة السورية، وفتح حدود الجوار لتنظيم «القاعدة»، وتوفير السلاح والمال لعناصره، تجمّعت في سورية عشرات الآلاف من هؤلاء المسلّحين، ووُفّرت لهم بيئة سياسية إعلامية قانونية تحميهم، واشتُرِط تغيير جذريّ في وضع سورية السياسي، لرفع الغطاء الممنوح لهؤلاء المسلّحين ومعاملتهم كإرهابيين، وفقاً لمعادلة سلّمونا سورية لنسلّم رؤوس الإرهابيين فيها.
غابت كلّياً عن المشهد السوري أيّ معاملة لهؤلاء الأجانب ومن يغطّيهم من عناوين سورية تعمل بقرار إقليمي ودولي. ومن وراء هذه العناوين، تشبه المعاملة التي لحقت بالقوى الوطنية اليمنية التي تقاتل تنظيم «القاعدة»، وتذكّر الأميركيون أنها قوى تتمرّد على حكم تمنحه الشرعية رغم نهاية ولاية الرئيس منصور هادي، وعجزه عن تجديدها ولو بانتخابات صورية. بل العكس جرى، فقد عرض على العناوين السورية التي تحضن «القاعدة» وتشكّل قناعاً لستر وجهها الحقيقي، ما اعتُبرت مطالبة القوى الوطنية اليمنية به جرماً شنيعاً، عندما عرض قيام عملية سياسية سورية تنتهي بتشكيل حكومة موحّدة، بينما رُفض حق اليمنيين بذلك. وفيما رفضت «الشرعية اليمنية» المنتهية الموالية للسعودية والتابعة لواشنطن صيغة الحكومة موحّدة سقفاً وقبِلها معارضوها، رفضت العناوين السورية المستعارة لتنظيم «القاعدة» في سورية بدعم أميركي صيغة الحكومة التي قبلتها الشرعية السورية الحقيقية وصار شرط الخارج الداعم لهذه العناوين رحيل الشرعية السورية لحساب معارضيها، ورحيل المعارضة اليمنية لحساب «الشرعية المستعارة». وفي الحالتين تضامن الأميركيون مع شرعية مستعارة ومعارضة مستعارة، حتى وصلوا إلى يقين الفشل في الحرب.
ما جرى ويجري خلال السنة الأخيرة من ولاية الرئيس الأميركي المنتهية قريباً، هو تنافس داخلي أميركي بين خيارين لكلّ منهما كلفته الداخلية والخارجية. الخيار الأول مواصلة الاستثمار على الحرب بأشكال ملتوية ومختلفة تبدأ بتبنّي الخيار السعودي ـ «الإسرائيلي» بالاستثمار على «جبهة النصرة» في سورية وعلى مواصلة العدوان السعودي في اليمن، ولو من دون أمل في إحداث تحوّل كبير في الميدان، بل لإدامة حرب الاستنزاف رهاناً على تغيير في مواقف روسيا وسائر الحلفاء الإقليميين لسورية والشعب اليمني. وخيار آخر ينطلق من لا جدوى مواصلة الرهان الذي خسر فرصه خلال السنوات التي مضت، ويرى في التصعيد مخاطرة بمواجهات يجمع الأميركيون على تفاديها، سواء المواجهة مع روسيا أو المواجهة مع إيران، واتّخذ السباق بين الخيارين الانتخابات الرئاسية الأميركية ميداناً، وتموضعت قوى الحرب الأميركية وراء لسان وخطاب لبقَين ومدروسين، لكن بلا روح. بينما تموضعت روح رجل الشارع الأميركي بكل فظاظتها وراء خطاب يشبهها، وحسمت الانتخابات النتيحة بسقوط خيار الحرب، وما نراه من عودة إلى العقلانية الأميركية في اليمن ومن تخلّ أميركي في سورية عن خيارات التصعيد علامة هذا التحوّل، عندما تخرج أميركا من الحروب التي أشعلتها.
يستأنف جون كيري وزير الخارجية الأميركية مساعيه اليمنية بعد مبادرته التي أجهضها السعوديون من قبل، فيصلون إلى وقف النار بين السعودية والحوثيين خلال محاثات أقلّ من يوم واحد، وتعلن واشنطن تصنيف «جبهة فتح الشام» كمجرّد تلاعب بالأسماء لـ«جبهة النصرة» لا يغيّر من حقيقتها كتنظيم إرهابيّ. وتعلن واشنطن بدء الغارات على مواقع الجبهة، بعدما رفضت ذلك قبل حلّ في حلب ترضاه الجماعات المسلحة. والمتغيّر الجديد في الحالتين هو اليأس السعودي من الرهان على تغيير لحساب أوهامها في سورية واليمن، واكتفاء «إسرائيل» بالشقّ الذي يعنيها من سياسات الرئيس الأميركي المنتخب بقياس العلاقات الأميركية ـ «الإسرائيلية» ومعاييرها الثنائية كبديل كافٍ عن تبنّي سياسات في المنطقة، تستجيب للتطلعات المشتركة لـ«إسرائيل» مع السعودية، فتترك أميركا أيتامها ولا يهمّها أبعد من التفرّغ لهمومها. فهذا ما يحدث عندما تقرّر أميركا الحروب التي أشعلتها، كما تقول التجربة الفييتنامية…
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.