آخر الكلام فوضى الحروب بيسارات مشوَّهة
د. رائد المصري
لعلّ أبلغ وصف للحالة التي يمرّ بها النظام الدولي اليوم هي الفوضى بكلّ معانيها، وعدم الثبات على استقرار واحد، يمكن من خلاله إرساء قواعد سياسية أو اقتصادية للبناء عليه مستقبلاً.
هي فوضى أرستها أو أرساها النمط النيوليبرالي المعولم وانعكس بدوره على القطاعات والفضاءات الكونية كلّها، وهو ينخر منذ ما يزيد على الثلاثين عاماً في أجساد الفقراء والسطو على ثروات الشعوب تحت عناوين وشعارات أبْهرت منظّري وثوار اليسار التقدمي خصوصاً في المنطقة العربية، بحيث كانوا متقدّمين في الصفّ الأول ورأس حربة في كلّ معركة تعمد هذه الإمبريالية الاستعمارية إلى البدء بها، في تشويه متعمّد وواضح للمفاهيم التي أرسيت وتمّ الشروع ببناء منظوماتها السياسية في المنطقة العربية، البعيدة عن صلف السّطو الاستعماري وأدواته الوظيفية كقوى «الإخوان» ومرادفاتها من السلفيات التكفيرية التي تعجّ بها البلاد.
هذا المدد اليساري الثوري المشوّه والذي نما في إطار من الخلاسية، جعلته يقتنع ويحاول إقناع العالم بصوابية مبادئه وبأنّ سياسات النفط والغاز المتأمركة والمتلبرلة عالمياً وشرق أوسطياً هي الدواء الناجع، وهي الترجمة الفعلية للصراع الطبقي الحقيقي ولدور التراكم في رأس المال، لكن هؤلاء الخلاسيين اليسار هم بعكس «الإخوان» الذين يُضمرون في بواطنهم أكثر مما يظهرون، لذلك انكشفت بسرعة عوراتهم وفاضوا بالمكنون المتربّص في دواخلهم. هذا الداخل الممتلئ بنفحات البرجزة وحب المال والسلطة، والذي شكّل لهم عقدة تاريخية مزمنة، ولأنّهم من طبقات اجتماعية مسحوقة كان سبيلهم بتبنّي الأفكار الاشتراكية واليسارية كمرحلة انتقالية للعبور وتحقيق مآلاتهم وطموحاتهم السلطوية، التي وجدوا في النظام المعولم النيوليبرالي أفضل تجسيد لطموحاتهم المشوّهة والدنيئة.
مجمل القول إنه في ظلّ الفوضى العالمية والحروب المنتشرة بأدوات التكفير والإرهاب لتدمير فوائض التراكمات المالية المتأتّية من لعْنة النفط والغاز وهذا منطق حتمي للرأسمال في دورة اقتصادية حربية من أجل إعادة إحياء هذا النمط المعولم الرأسمالي، في عملية سطو جديدة على ثروات الشعوب واستعمارها، تعمل هذه النّخب اليسارية من جديد على إعادة تموضعها متماهية مع أو في إعادة إنتاج وتضليل الوعي الطبقي الشعبي حول العالم.
فلم تعُد تدري تلك النّخب وهي التي ندبت وتندب حظّها في كلّ يوم، وتستدعي الأميركي المستعمر لقصف دولها وشعبها ودكّ بناها التحتية لإزالة الطبقات الحاكمة وتركيبها كمشروع بديل مهما كلّفت الأسباب، متناسين على الأقلّ أنّهم أولاً: لا يمكن استئمانهم على المال والحياة والأعراض، وثانياً: هم طبقة تشكّلت ضمن معادلة الرقّ والعبودية بيد المستكبر الغربي ويمكن بيعه في سوق النخاسة ساعة تحين الفرصة، وها هي قد حانت.
خلاصة القول إنّه في ظلّ المشهد العالمي المضطرب سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، بدأت تتغيّر فيه وتتبدّل قواعد وعلاقات الإنتاج التي تحكم أسس النظام الرأسمالي المعولم المتفلّت من عقاله والمستبيح كلّ المحرمات وكلّ السيادات، ليست الدولية فقط بل حتى الخصوصيات الذاتية والشخصية والاجتماعية التي فاعت فوعة تكفيرية.
هذا التغيير في قواعد اللعبة يتّجه نحو المزيد من الحوكمة في سبيل التوجّه لبناء منظومات إقليمية متشابهة ومنسجمة في إطار منافسة سياسية واقتصادية ضمن احتكارات منفصلة الواحدة فيها عن الأخرى، أيّ بمعنى أنّ هذا التنافس بين الوحدات الرأسمالية يبقى مشروعاً ومطلوباً لتقديم الأفضل للمستخدم، بعكس النظام الرأسمالي النيوليبرالي الذي تمادى خلال ثلاثة عقود المعمّم بوحداته وكلياته الاحتكارية وتعمّمت معه ثقافة الفساد التي استحال في ظلّه مكافحتها.
هذا التبدّل في المفاهيم الناظمة لحركة رأس المال العالمية في وحداتها المنفصلة عن بعضها البعض، والمتلازمة بواقع وحركة سياسية تسوّق مشروعها، لن تجد ولن يكون لها أفضل أداة فاعلة لسياساتها إلاّ هذه الطبقة الخلاسية اليسارية والعودة بها إلى أصولها الطبقية التي انحدرت منها، في إعادة إحياء نوستالجيا وحنين إلى الماضي يمكن أن يشفع لهم يوم الزحام، ممّا ارتكبت أياديهم من موبقات بحق الشعوب الفقيرة التي تسلقوا على أكتافها حقبات من الزمن، لكنهم لم يقدروا على تحقيق طموحاتهم المكبوتة، رغم إغداق المال النفطي والغازي عليهم والانفتاح العولمي والإعلامي المبهر، لأنّهم عبيد مأمورون لعبيد مأمورين.
لن نقول لليسار الخلاسي المقنع والمزيّف كذباً ورياء بأنّه وقف إلى جانب قوى التكفير في سورية والعراق، ولم يقل كلمة حق في كلّ ما يجري من هجمة استعمارية غربية وتكفيرية، ولم يقُلْ كلمة حق في وجه مَنْ دمّر دولاً وشرّد شعوباً ووضعها في مخيمات تستجدي الأمم وعطاءات أمراء النفط والغاز… لن نقول لهم وداعاً… بل إلى اللقاء في حلقة وصراع وحلبة جديدة…