تركيا بين روسيا والاتحاد الأوروبي
د. هدى رزق
تتمحور المشاكل التي تواجهها تركيا حاليا، حول الاقتصاد والإرهاب والصراعات الإقليمية والخيارات السياسية الاستراتيجية، بين الشرق والغرب، عدا عن أن سياسة أنقرة في الداخل بلغت ذروتها في الاستبداد، في أعقاب محاولة انقلاب 15 تموز الماضي، اذ سجلت الأشهر الأربعة الماضية، حملة على الساسة الاكراد والمعارضة الليبرالية، إلى جانب عملية التطهير من الانقلابيين وتعليق الحريات وسيطرة للدولة الامنية.
هي حملة من أجل الهيمنة السياسية على الدولة، عبر التصرف بالقوانين، وصلت إلى مستويات غير مسبوقة. هذا الى جانب التدخل العسكري في سورية والعراق، إضافة إلى اقتصاد هش على نحو متزايد.
كما أن العلاقات بين بروكسيل وانقرة، ساءت، ناهيك عن العلاقة الفاترة مع الادارة الاميركية السابقة، فيما تطورت علاقتها بروسيا.
تعتبر روسيا أن تركيا تمر في مرحلة اانتقالية. وهذا يؤثر، مباشرة، على مسارها السياسي، بما في ذلك، العلاقات مع أوروبا والولايات المتحدة، التي تعتبر تركيا ساعدها الأيمن في المنطقة، فانقرة أصبحت مستقلة في سياستها الدولية. وهي ترى أن الاتحاد الأوروبي، يعتبر تركيا دولة شريكة وداعمة له ولا يراها كدولة ذات طموحات جيوسياسية كبرى. أما موسكو، فهي تعتقد أن الرئيس رجب طيب أردوغان تجاهل المنطق الأوروبي لإدارة أزمة اللاجئين، حاول استخدام هذه الأزمة لمصلحته الخاصة وبالغ في تقدير قدراته. وإن الولايات المتحدة فشلت في الضغط على تركيا، لتغيير سياساتها الطموحة، فتصدعت العلاقة وتعقدت، ما دفع الوضع السياسي التركي لإعادة تنشيط العلاقات مع روسيا، إذا وجدت أنقرة أنه من الممكن البدء في حوار حول القضايا الأكثر حساسية، بما في ذلك سورية. بدورها موسكو، أكدت أن تركيا تبحث عن هوية جديدة، لذلك، تخوض حربا داخلية وتعتقل من يعارضون «تركيا الجديدة». لأن سياسة أردوغان طموحة، فالبحث في اعادة النظر باتفاقية لوزان هو بحث عن الذات، يزيد من عدم الاستقرار. كما أن اتباع سياسة مستقلة، ينطوي على مخاطر بالنسبة لدولة اقليمية. ومع ذلك، تتعاون موسكومع تركيا، فالعلاقات تاريخية والموقع الجغرافي -السياسي لتركيا، هو على مفترق طرق اقتصادية وسياسية وعسكرية كبيرة.
لذلك، شهدت كل من تركيا وموسكو، زيارتين للرئيسين التركي والروسي. واتفق الطرفان على استئناف التعاون فى المشروعات الاقتصادية الرئيسية. وكانت روسيا قد رفعت، تدريجيا، العقوبات التي فرضتها ضد تركيا. ومع ذلك، كانت هناك شكوك حول التقدم في العلاقة، خصوصا فيما يتعلق بالقضايا المتعلقة بالأمن. فتركيا عضوفي منظمة حلف شمال الأطلسي، كما أنها أصرت على زيادة وجود الحلف في البحر الأسود، بحيث لا يتحول إلى «بحر روسي». وعلاوة على ذلك، تركيا لديها رأيها حول التطورات في القوقاز وآسيا الوسطى، وهذا الرأي لا يتوافق مع موسكو.
تبقى سورية، هي القضية الرئيسية من وجهة نظر كل من موسكو وأردوغان. فالاخير كان يخطط لاستخدام المعارضة المعتدلة لمصلحته الخاصة، من أجل تغيير السلطة في سورية. وفي الوقت المناسب، بناء خط أنابيب الغاز الطبيعي من قطر. بينما ترفض موسكو، تغيير أي نظام بطرق غير شرعية. وهي حليف لسورية. مع ذلك، يتفقان على وحدة الدولة السورية، كل لاسبابه الخاصة. تركيا، تخاف من إمكانية إنشاء دولة كردية، أو حكم ذاتي. وعلى الرغم من أن روسيا تتفاعل مع حقوق الاكراد، الا أنها تحافظ على على مبدأ وحدة سورية، الامر الذي يضيق الفجوة بين أردوغان و بوتين.
فاوضت الدولتان حول مصير سورية، بعد الحرب. وعلى ضرورة التخلص من «داعش». عدا عن التفاوض حول خط أنابيب الغاز. لكن تركيا تناور من أجل زيادة نفوذها في شمال سورية. وفيما تحاول تركيا توسيع نفوذها في شمال العراق، ترى موسكو أنه لا بد من ضرب «داعش».
في موازاة تطور العلاقات بين تركيا وروسيا، تتردى العلاقة بين الاتحاد الأوروبي وأنقرة. ليست المرة الاولى التي يتم فيها خلاف بين الطرفين، ففي عام 1997 قررت تركيا تجميد علاقاتها، جزئيا، مع الاتحاد الأوروبي، بعد أن رفضت قمة الاتحاد، في لوكسمبورغ، منحها وضع البلد المرشح للعضوية. لكنه بعد ذلك بعام، عدل الاتحاد عن قراره. بيد أنها المرة الأولى التي يصوت فيها البرلمان الأوروبي، على تجميد عملية انضمام بلد مرشح للعضوية، من أجل توسيع الاتحاد الأوروبي. جميع الفئات السياسية الممثلة في البرلمان أيدت القرار، في إشارة إلى أنه، حتى الأنصار التقليديين لانضمام تركيا المحتمل، صوتوا جنبا إلى جنب، أي إلى جانب المشككين، في امكانية قبولها. مع أن قرار البرلمانيين، من الناحية القانونية، غير ملزم، لا لأن الوضع اليوم مختلف. في متناول يد الاتحاد الأوروبي أدلة وافرة لإثبات أن تركيا لا تفي بمعايير كوبنهاغن، لكي تستمر في عملية الانضمام. فقرار تجميد محادثات العضوية اتخذ، لكن الاكيد، أنه لن يجلب أي تغيير في سياسة أردوغان الداخلية، التي يرونها استبدادية، أو في مواقفه من أوروبا.، وهو صرح بانه لا يبالي وان الخاسر هو الاتحاد الأوروبي، على الرغم من الحنق الذي ساد انقرة عند صدور القرار.
كثيرون يشككون، اليوم، في امكانية حصول الاتراك على التسهيلات التي وعدت بها تركيا، بسبب المزاج السلبي في البرلمان الأوروبي، الذي ستكون له انعكاسات على هذه العملية. فمطلب الاتحاد الأوروبي تغيير قانون الإرهاب، أدى إلى جمود في العلاقة، بسبب رفض تركيا هذا التغيير، كونه سيأتي لصالح المسالة الكردية وحزب العمال الكردستاني، الذي تخوض الحكومة معه حربا، فكيف يمكن تغيير القانون اليوم، بعد الانقلاب الفاشل وتداعياته.
لا يرى الاتحاد الأوروبي أن لصفقة اللاجئين وزن في قراره تعليق عملية انضمام تركيا. فالأوروبيون، لم يعودوا قلقين بشأن تدفق جديد للاجئين، في حال انهيار الصفقة. سيما مع التدابير الأمنية المتخذة على الأرض وفي البحر، اذ هناك ما يكفي من الردع لمنع اللاجئين من سلوك هذه الطريق.
مخطىء من يعتقد أن أردوغان لم يستفد، حتى النفس الاخير، من الاتحاد الأوروبي ومن معايير كوبنهاغن، التي فرضها الاتحاد الأوروبي. اذ استطاع الاسلام المحافظ، الذي ينتمي اليه أردوغان، أن يتساوى في قطاعات عديدة مع الجماعات العلمانية، من حيث الحقوق الثقافية والقوة الاقتصادية والتمثيل السياسي. هذا التحول، يؤكد أنهم حققوا طموحا انتظروه قرنا من الزمن. وهو حق لهم ونجاح لأردوغان، الذي ساهم في تعزيز هذا التحول، من خلال بناء طبقة وسطى جديد،ة اعتمادا على الظروف الاقتصادية المواتية. فالطبقة الوسطى هذه، انتقلت نسبتها من 21 في المائة في عام 2002 إلى 41 في المائة في عام 2011 بفضله. وهذا الانجاز يشكل جوهر التأييد لسياسته، اليوم.
كذلك، استطاعت سياسات أردوغان، في الحقبة الماضية، جعل هذه الفئة تستفيد من ديمقراطية القانون التركي، ما سمح لها بالحصول على المطالب المدنية 2003- 2011 التي سادت تلك المرحلة. وقامت القطاعات الاجتماعية الاسلامية، بالتواصل مع القيم العالمية وقواعد اقتصاد السوق وخضعت لعملية التحول.
الاستياء الأوروبي من أردوغان، يأتي بسبب عدم رغبته في حل القضية الكردية، من خلال المفاوضات، حتى مع الحركة السياسية الكردية. إذ أتى اعتقال أحمد تورك، السياسي الكردي والنائب االسابق المخضرم المعتدل ومنعه من مقابلة محاميه لفترة خمسة أيام، كرسالة واضحة في سلسلة بدأت مع إلقاء القبض على رؤساء البلديات، في المركز السياسي والثقافي الكردي، في ديار بكر، حتى وصلت إلى اعتقال زعيم حزب الشعوب االديمقراطي صلاح الدين دميرطاش وعشرة نواب من الحزب، الذي يشكل الكتلة الثالثة والأكبر في البرلمان التركي. كما تم نقل دميرطاش إلى سجن أدرنة، في غرب تركيا، على الحدود مع بلغاريا، حيث يسجن المشتبه بهم من «داعش».
العامل الكردي يقف وراء الدعم الشعبي المستمر لأردوغان، الذي ينبع من الموجة القومية والانغلاق الذي نمى بشكل أقوى، تحت تأثير الاضطرابات السياسية في السنوات الأخيرة، ابتداء من عام 2013، إذ تراجعت الليبرالية عند التيار الاسلامي المحافظ، تأثرا بالربيع العربي والانقلاب على «الاخوان» في مصر والحرب السورية والخوف على وحدة البلاد من تحالف حزب العمال الكردستاني مع أكراد سورية.
يأتي سجن المعارضين، إلى جانب الانقلابيين والصحافيين والكتاب والمثقفين، كذلك، ضرب استقلالية القضاء، ليعبث بمقررات كوبنهاغن. حيث يبدو أردوغان لا كمشاكس، انما، كمن يتخلى عن الاتحاد الأوروبي. وهو صرح في اكثر من مناسبة، عن رغبته في الانضمام الى منظمة شانغهاي، التي يتنافى الانضمام اليها مع واقع تركيا في الحلف الاطلسي. فهل يناور لكي يخرج من الحلف، أم هو، كما تعتقد روسيا، يستقل ويبحث عن هوية جديدة لتركيا الجديدة، في منطقة غير مستقرة.