سيل يوضح في كتابه: نيّة رياض الصلح تصفية سعاده

كتاب «رياض الصلح والنضال من أجل الاستقلال العربي» والذي كتبه باتريك سيل بطلب وتمويل من ورثة الصلح، وكما يشتهون، لم يحقق الغاية التي وضع من أجلها، وهي تلميع صورة رياض الصلح وتبييض صفحته وإخفاء ارتباطاته. ولعل أبلغ رد ما أعلنه سيل نفسه، إذ قال إنّ ابنة رياض ـ طلبت منه كتاباً «يصفّق لوالدها».

وعليه فإنّ رد بدر الحاج على الكتاب يُعتبر وثيقة مهمة تكشف حقائق عديدة حاول الكتاب التعمية عليها.

لذلك تنشر «البناء» رد الحاج على حلقات:

بدر الحاج

إذن، الأزمة مع رياض الصلح بدأت قبل وصول سعاده إلى بيروت، واستمرّت ما بين آذار 1947 وتموز 1949. إصدار مذكّرة توقيف لمجرّد إلقاء خطاب، تلاها تعطيل الصحف والمجلات الحزبية، ومنع النشاطات الحزبية العامّة، ومراقبة دقيقة هاتفية ويومية لنشاطات سعاده كما تُظهرها وثائق مدير الأمن العام الأسبق الأمير فريد شهاب، ثمّ اعتقالات، وأخيراً تخطيط محكم من قِبل حكومة الصلح بالتنسيق مع تشكيلة الكتائب لقتل سعاده. ونجح المخطّط في 8 تموز 1949 بتصفيته مع مجموعة من أعضاء حزبه تمّ انتقاؤها بالقرعة وعلى أساس طائفيّ وفق الأسلوب «الديمقراطي» للراحل رياض الصلح الذي «يكره جدّاً الطائفية» كما يدّعي سيل!

هذا هو مختصر سريع لمجرى الأحداث. فماذا عن الخلفيات؟ وكيف عالج سيل في كتابه ظاهرة سعاده وحزبه؟ لنبدأ بما يلي:

في الثلاثينات من القرن الماضي، يقول سيل: «وعندما واجه سعاده خطر الاعتقال مرّة أخرى اعتُقل ثلاث مرّات من قِبل الفرنسيين 1925، 1936 و1937 بينما «بطل الاستقلال» يسرح ويمرح بسبب تودّده إلى ألمانيا، قرّر مغادرة بيروت فجأة». ص 667 . وفي مكان آخر يقول: «إنّ سعاده كتب في 11 تشرين الثاني 1939 في صحيفة سورية Diario Syrio مقالاً مؤيّداً للنازيين». ص 397 .

بالنسبة إلى الاتهام الأول، أتحدّى السيد سيل أن يشير إلى المقال الذي كتبه سعاده في بيروت متودّداً للنازية. ليتفضّل سيل أو الذين ساعدوه، وربما كتبوا له، أن يُظهروا لنا المقال الذي استندوا إليه. صحيفة الحزب آنذاك كانت «النهضة»، وكتابات سعاده موجودة، والأمانة العلمية تقضي بأن يُشير إلى المصدر، لكن لأنّ للتصفيق ضرورات… اختفى المصدر المزعوم.

أمّا في ما يتعلّق بمقال سعاده في سان باولو، فليس هناك من حيث الشكل على الأقل جريدة اسمها «Diario Syrio». كانت هناك صحيفة اسمها «سورية الجديدة» أصدرها سعاده بشراكة مع قوميين من آل البندقي. وبعد صدور أعداد عدّة توقّف سعاده عن إمداد الجريدة بالمقالات، وأعلن رسمياً عدم علاقة الحزب بها، ودعا إلى مقاطعتها بسبب انحرافها إلى دول المحور، ورسائله وتوجيهاته في هذا الخصوص واضحة. والجريدة موجودة على شكل مايكروفيلم في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت، فليتفضّل السيد سيل ومَن عمل معه ليبرزوا لنا هذا المقال الذي استندوا إليه.

أقلّ ما يُقال في هذا الإطار إنّ سيل والكتَبَة الذين دبّجوا ترّهاتهم يختلقون الأحداث والروايات. فَهُم يدركون جيداً حقيقة الأحداث، لكن واجباتهم تفرض عليهم إخفاء الحقائق. وعلى أيّ حال، النتيجة سيّئة لأنّ تزوير التاريخ ليس بهذه البساطة. بالطبع، ليس للقيم الأخلاقية والمعايير العلمية وجود في جو التصفيق.

في عرضه لوضع سعاده وحزبه أثناء وجوده القسري في المهجر الأرجنتيني، يقول سيل: «أمضى سعاده فترة الحرب في أميركا اللاتينيّة، في شيء من الأمن والراحة، وواجه أتباعه في لبنان أوقاتاً عصيبة». ص 668 . ثمّ يضيف في مكان آخر: «بادر بعد عودته إلى حلّ المجلس الأعلى وتعليق عضوية أعضائه الذين قدّموا تضحيات كبيرة للحفاظ على استمراية الحركة في أثناء غيابه. لا شكّ في أنّ سعاده أراد بصرفهم بهذه الطريقة الفظّة إعادة توكيد سيطرته التامّة على الحزب»! ص 672 . إذن، ما يريد أن يقوله سيل، إنّ سعاده كان مرتاحاً يعيش برغد في المهجر بينما المناضلون ـ الذين عملوا مع سفارة سيل البريطانية في بيروت ـ تعرّضوا للمخاطر! لن أستفيض في تكذيب هذه الترّهات، أيضاً رسائل سعاده وكتاباته في تلك الفترة تُبرز بوضوح مرحلة صعبة جداً واجهها الرجل في المهجر، حيث دفعه الفقر المادي والعوز إلى العمل مع زوجته في متجر لبيع القرطاسية والورق من أجل تأمين لقمة العيش. علامَ استند سيل ليزعم أنّ سعاده كان يعيش في رفاهية؟ ماذا يقول الشهود في توكومان الأرجنتينية حيث كان يقيم ويعمل؟ كلّ شيء مدوّن وصل إلينا يدلّ على أنّه كان في حالة مادية أقلّ من عادية، بل هو اضطر لشراء دراجة هوائية مستعملة لاستخدامها في توزيع الورق والقرطاسية.

التحامل المبرمَج على سعاده لا يفارق صفحات الكتاب. يدرج سيل مجموعة من الاتهامات والأضاليل المتناقضة، مثلاً: «عاد عليه دفاعه عن آرائه أمام المحكمة المختلطة عام 1935 عندما اكتُشف أمر الحزب بإصرار وعناد ببعض السخرية». ص 393 ، «ولعلّه لاحظ كلمة لعلّه تأثر بأفكار الكاهن اليسوعي هنري لامنس». ص 393 ، أو «عندما نودِيَ عليه بِاسم أنطوان سعاده في المحكمة الفرنسية لَم يُجِب إلّا عندما استُبدل الاسم السرياني أنطون بالاسم الفرنسي أنطوان». ص 394 . إنّه أمر مثير للضحك والسخرية! رفض سعاده الإجابة عندما نودِيَ عليه بِاسم أنطوان، بينما أصرّ على اسم أنطون العربي. لكنّ الأمور اختلطت علي السيد سيل بين العربي والسرياني، فهو أصلاً لا يتقن العربية ناهيك عن السريانية، على أيّ حال هذا تفصيل.

من ناحيةٍ أخرى، انظروا كيف يغمز سيل، ومَن يقف وراء سيل، من قناة «حزب الله» في معرض تحامله على سعاده.

يقول السيد سيل إنه: «بعد المحاكمات الفرنسية لأنطون سعاده في الثلاثينات، أُعجب الناس بموقفه أمام المحكمة عجباً في المقطع السابق ادّعى أنّ موقفه كان مدار سخرية . وأعجبوا بتنظيم الحزب الذي تمكّن في أوقات الأزمة الاقتصادية من تأمين الخدمات العامة وعدد كبير من الوظائف مثلما فعل حزب الله في وقت لاحق ». ص 395 .

هذا الكلام لا يحتاج حتى إلى تعليق! إنّه قمة في الهراء. أولاً في تبريره السخيف لانتشار أفكار سعاده بين الناس، وبصورة خاصة في معاقل آل الصلح وتحديداً بين المثقفين والمهنيّين من السنّة. على الأقلّ لم يعتمد سعاده على «قبضايات الأحياء الذين هم مصدر قوّة رياض الصلح»، كما يقول باتريك سيل في الصفحة 403.

أمّا جوابنا على الوظائف التي أغرى بها سعاده حزبه، كما يدّعي سيل، فنقول إنّ سعاده اتُّهم بالكثير: يمينيّ، نازيّ، عدوّ لبنان، عدوّ العرب… لكن بعد مراجعة كلّ ما كتب من سلبيات بحقّ سعاده، أهنّئ السيد سيل على هذا الاكتشاف الذي لم يسبقه إليه حتى أكثر الفئات عداوة لسعاده.

وكذلك نقول لهؤلاء المسكونين بهاجس حزب الله، إنّ هذا الحزب لم ينتشر فقط بسبب الوظائف والخدمات الاجتماعية، على أهميّتها، إنما انتشر وانتصر لأنّ النظام السياسي الذي أرساه الصلح لم يوزّع سوى الموت والفقر والجوع والمهانة في «الأقضية الأربعة» التي ناضل آل الصلح لإلحاقها بلبنان الكبير في مؤتمر الساحل. لكن مهلاً، لماذا لم يذكر سيل، وهو الحريص على تبجيل العائلة، مثلاً، كيف أنّ كاظم الصلح الذي حضر مؤتمر الساحل في حديقة منزل أبو علي سلام في الدوحة، هرب من الاجتماع بعد أن قذفه المجتمعون بالليمون بسبب موقفه «الوطني»؟

نعم، لقد انتصر «حزب الله» بعد أن واصل الصهاينة عمليات القتل من دون أيّ رادع ضدّ اللبنانيّين والفلسطينيّين المقيمين على الأراضي اللبنانية، طوال عشرات السنين بتواطؤ من النظام الذي أرساه السيد الصلح. ورغم الارتباطات والخيانات، كان الانتصار على صهاينة فلسطين ومرتزقتهم في بيروت عام 2000 وعام 2006. هذا الانتصار هو بحقّ من أروع الانتصارات في التاريخ العربي الحديث، وهو هو العروبة الحقيقية والاستقلال العربي الحقيقي.

رواية سيل عن عمل الصلح للوحدة العربية وعلاقته بالحركة الصهيونية

حول موضوع فلسطين والحركة الصهيونية، يدّعي سيل أنّ «ثمّة مجالات أخرى اقترب فيها سعاده كثيراً من سلب مُثُل رياض الصلح التي يتمسّك بها. فقد دعا سعاده إلى إنهاء النظام الطائفي وقيام الأمة السورية الكبرى على أساس المواطَنة المشتركة، لا على أساس الانتماء الديني أو العرقي. وذلك هدف وضعه رياض نصب عينيه في لبنان، لكنّه لم يستطع تحقيقه في ذلك الوقت». ص 679 .

يريدنا سيل أن نعتقد بأنّ همّ رياض الصلح كان إنهاء النظام الطائفي، لكنّنا نسأله عمّن أقام هذا النظام ومَن تربّع على عرشه؟ وما المشكلة في إنهائه؟ الحقيقة أنّ هذه النقطة نعتبرها قمّة الذكاء من قِبل سيل الذي يريدنا أيضاً أن نعتقد بأنّ الصلح يريد الوحدة السورية! يا للعجب! أترك للقارئ أن يستوعب هذا الأمر. ولكن لا بدّ هنا من الإشارة إلى ما ذكره يوسف سالم، صديق رياض الصلح، في معرض الإشادة برياض حين قال: «إنّ رياض يقول بأنّ لبنان ذو وجه عربيّ، وليس بلداً عربياً». وإنّه كان يردّد: «لا وحدة سوريّة ولا انتداب». يوسف سالم: 50 سنة مع الناس، دار النهار، بيروت 1998، ص 155 .

ولعلّ سيل ومساعدوه لم يقرأوا ما صرّح به «المناضل العربي» في لندن في 30 كانون الثاني 1946 حين قال: «إنّ الوحدة السورية فكرة تشجّعها الدول الأجنبية». ملخّص بعنوان:la vie de Riya des-Solh, P. 1 Principaux faits et evenements dans

وعلى رغم الكلام الموثق أعلاه، يُصرّ سيل على القول إنّ الصلح هو من دُعاة الوحدة السورية. وهنا، لا بدّ من الإشارة إلى تحليل دقيق لمواقف الصلح من موضوع الوحدة، أشار إليه كمال جنبلاط في استجوابه الثالث لحكومة الصلح بعد اغتيال سعاده حين علّق على خطاب الصلح لمناسبة رأس السنة 1948، قائلاً: «هذا الخطاب الغريب في بابه، والذي لم يَرِد فيه ذكر للعروبة ولا للوجه العربي، كأنما كان يقصد التنقّل فيها والوجوه تلبس في أوقاتها . إذا لم نعتمد تذكير رئيس الحكومة بالماضي الذي كان يتنكّر حضرته للبنان الشاطئ السوري ويطالب بالوحدة السورية التامّة، وبالامبراطورية العربية إلى غير ذلك من الأنغام التي تعوّدناها من أكثر السلبيّين خارج الحكم، والتي كانت تطرب لها الجماهير اللاواعية…». جريدة «النهار»، 9 أيلول 1949 . ويضيف جنبلاط: «إنّ العروبة الحقيقية تنتقل في الواقع من الساسة الممتهنين الذي غيّروا أو بدّلوا ألف مرّة ومرّة أفكارهم واتجاهاتهم السياسية. وفي كلّ مرة يعلّلون هذا التغيير بشتّى الأعذار والأسباب والاعتبارات التي لا تدلّ إلّا على وهن العقيدة في أنفسهم وعلى رغبتهم في الوصول». المصدر السابق .

من ناحية أخرى، يدّعي سيل ص 678 ، أنّ سعاده «أبلغ الصحافة أنّ على العرب القبول بتقاسم فلسطين مع إسرائيل كأمر واقع، في ذلك الوقت كانت هذه العبارة مثيرة للغضب الآن قمّة الوطنية بالنسبة إلى سيل ورأى بعض الاشخاص أنّها تؤكّد صِلة سعاده بالبريطانيين». ماذا يمكن للمرء أن يردّ على مثل هذه التفاهات والافتراءات؟

إنّ اتهام سعاده بالموافقة على تقسيم فلسطين يدحضه سيل شخصياً في الصفحة 697 من كتابه، إذ كتب يقول: «لم يكن سعاده يقبل النقاش، فهو منظّر إيديولوجي لا يؤمن بأيّ تسوية… وساد اعتقاد في بيروت أنّه ديماغوجي وثوريّ خطير يجب التخلّص منه». إذن، أوضح لنا سيل من دون أدنى شكّ أنّ النيّة في بيروت بالتحديد لدى رياض الصلح والفريق الحاكم، كما سنوضّح لاحقاً كانت تصفية سعاده، وعلى أساس قول سيل إنّ سعاده «منظّر إيديولوجي لا يؤمن بأيّ تسوية». فكيف يفسّر لنا ادّعاءه بقبول سعاده تقسيم فلسطين والتسوية؟

أين هو تصريح سعاده؟ في أيّ صحيفة أو مطبوعة؟ ما هو المصدر الذي استند إليه سيل؟ الأمانة العلمية تقضي بأن يذكر سيل المصدر، لكن يبدو أنّ من كتب له هذا الادّعاء يحاول قدر الإمكان ممارسة التدجيل الفاضح. إنّ موقف سعاده من المسألة الفلسطينية منذ عشرينات القرن الماضي إلى اليوم الأخير في حياته واضح، فهو في كلّ ما كتب وفعل ليس بحاجة إلى شهادة حُسن سلوك من أحد. ونعذر سيل لأسلوب التزوير الذي اعتمده، فلذلك سبب وجيه جداً ومعروف.

هنا نودّ أن نُشير إلى حقيقة موقف رياض الصلح من تقسيم فلسطين التي لم يُشرْ إليها السيد سيل…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى