ناجي بيضون في «أربعون أغنية لحفيدتي»… «شيكا بيكا… جدّك يا صوفيا صاير آنتيكا»
اعتدال صادق شومان
«ما أعزّ من الوَلَد إلّا ولد الولد»، مقولة من الزمن الغابر، لم تأتِ من عبث، بل هي سِمة رافقت الأجيال منذ القِدم، منذ زمن تحلُّقِنا صغاراً حول التجاعيد المفعمة بالطيبة، والمتدفّقة حناناً بلا حدود. ومن دون ترجمات، ننصت إلى تراكم الصوَر ومخزون الحكايات من سالف العصر والزمان، تراثاً شفوياً زاخراً بمعاني الحياة ومحصّلتها من عادات وتقاليد وأعراف، نستقي منها المواعظ والعِبر، وسعة الأفق. قصص شغلت أحلامنا وطبعت حياتنا بعمق البصمات وأبعدها غوراً. صعب أن تمحوها ذاكرة أو يصيبها هلاك، قبل أن تمضي بنا سنون العمر آخذة في غلالة حياتنا، ونتنكّب الدور من جديد، ولو تقاسماً مع المربّيات الأجنبيات… لزوم متطلّبات العصر.
بدوره، لم يخرج ناجي بيضون الجدّ في ديوانه الجديد «صوفيا»، عن هذا الدور رغم زحمة المشاغل. ولم يبتعد كثيراً عن المشهد تجسيداً لدورة الزمن، في مناجاته حفيدته «صوفيا»، فيترك «سبعينه» وراءه، ويتحلّق هو خلف حفيدته «صوفيا» في الصيغة الجديدة والمختلفة للعلاقة، يعكس النمط الماضي في انقلاب للأدوار. هنا، يقتحم الجدّ مملكة البراءة والدهشة يجذله ركن الألوان الزهرية والشرائط الملوّنة في الغرفة الصغيرة المشرّعة على وسع القلب الرحب، فألهمته «صوفيا» ألبوماً من الصور الوردية في «أربعون أغنية لحفيدتي»، يحكي حكاياتها منذ أن هلّت الضحكة الصغيرة في البيت الكبير، متواطئاّ مع حفيدته على «ليلى والذئب» وسندريلّا» و«بياض الثلج». فبدلاً من أن يروي لها الحكاية، صارت هي الحكاية وبطلتها الأولى مع أولى الخطوات المترنّحة «دا دي شطّا بطّا»، وإن خانتها القدمان الصغيرتان، يسقط قلب الجدّ قبل أن تصل هي إلى الأرض.
وتبدأ «صوفيا» ببعثرة الحروف المتلعثمة، وتصبح «صوفيا» «هالطول هالطول، ولبست المريول»، وجاء العيد الكبير في سنتها الأولى، وركضت، وركض جدّها ولم يزل، خوفاً من تكبّر «صوفيا»، وتأخذ منه طفولته وتعيده الى قنوط الكبار وألوانهم القاتمة.
أعادت «صوفيا» «المحامي» إلى حضن الطفولة يلهو ويبعث ويتشاركان في نشر الفوضى في شَغَب طفوليّ يُفرح عالم «صوفيا»، ولا ينؤ الجدّ «بحَمل هموم الكبار»، ويصير حرّاً «مثل صوفيا». معها يهبط عن منبر المحاماة ويعود طفلاً يسابقها إلى الفراشات، يودِعُها أحلامه بألوان الطفولة، فتعتلي «صوفيا» مكتبه لترسم على دفتره في قانون الكبار «أرنباً وتمحو ذئباً كي لا يهرب ديكاً»، فيسود العدل ويعمّ الفرح كما في حكايات الجدّات.
يشاركها مساحتها العفوية، يلوذ بها ويلاحقها في تبارٍ شغوف بين عمرين. وعلى وقع خطواتها المترنّحة، يدعوها إلى الرقص ويرفرف على صخب ضحكاتها، يملأ سلّتها بالحروف الجميلة، فكتب «دالا درج… عرج»، وإذ يتلعثم الجدّ بالحروف المتشابكة، تضحك «صوفيا» من ركاكة لغته. لم يحفظ الجدّ الدرس جيداً، فصارت «صوفيا» تكتب والجدّ يلعب، يطيب له تنكّب دور الحارس يحمي ظلّ «صوفيا» ويداري عنها غضباً أو تأنيباً، على «شيطنة» ارتكبها الجدّ.
إذا كانت للأحفاد مكانة وحظوة خاصة عند الأجداد، فحظوة «صوفيا» كبيرة عند جدّها في ديوانه «أربعون أغنية لحفيدتي». نظنّ للوهلة أنه وقع في الخطأ اللغويّ في عنوان الكتاب حين قال «لحفيدتي» بدلاً من «إلى حفيدتي». نقرأ الكتاب، فندرك أن الخطأ مقصود، وأنّ «صوفيا» كتبت أغانيها كلّها، وتكفّل جدّها فقط بالترجمة… واكتفى هو بأغنية واحدة كتبها على الغلاف الأخير، ليقول لها:
«تلوحين مثل غلاف الكتاب، ومثل سؤال من دون جواب. أضمّك تسكن في الحروف، ويخفق قلبي بألف جواب».
«كان يا ما كان في قديم الزمان، كان في بنت صغيرة اسمها صوفيا، حبّا جدّا كتير كتير، وغنّالا أربعين غنّية»!
حكاية سترويها «صوفيا» لأحفادها عن جدّها ناجي بيضون… بطل الحكاية.
يوقّع المحامي ناجي بيضون كتابه «أربعون أغنية لحفيدتي» بين السابعة والنصف والتاسعة والنصف من مساء اليوم في جناح «دار الفارابي».