النحّات السوريّ عفيف آغا في «بوح الحلم»… غزل بالمرأة وإنقاذ التشكيل في معرض بيروت للكتاب
جهاد أيوب
ضمن نشاطات معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، وبدعوة من «المسرح الأخير»، أنقذ النحّات السوريّ عفيف آغا من خلال معرضه «بوح الحلم» الزاوية التشكيلية في المعرض، والتي قدّمت مجموعة تجارب تحت مسمّى «ألوان». تجارب فوضاوية، مجمّعة بطريقة عشوائية غير هادفة، ولا روح فيها، فقط أبعد التجربة الفوتوغرافية التي شاركت وتميّزت عن كلامي هذا.
عفيف آغا يأسرنا بمنحوتاته، يأخذنا فعلاً إلى أحلامنا بعناية ودقّة ولهفة، نبوح مع منحوتاته، ونختزل معها النطق. تجعلنا متمترسين أمامها من دون ملل، نراقبها من كلّ الزوايا لنجد في كلّ زاوية قراءة جديدة تخدم القراءة التي سبقت وجاءت من زاوية آخرى. نبتعد عنها ونقترب، تجذبنا بفضول، وترسمنا بحنان، ثمّ تعاود البوح كأننا نشاهدها للمرّة الأولى، متميزة بالبساطة المدروسة، وبالتقنية المخملية العالية، ولا مجال للارتجال أو التنظير أو العشوائية، بل منطلقة من موروث فينيقي عميق، وسفر عبر البحار، وانتظار الجديد على شاطئ العمر والأحلام.
يدرك عفيف آغا أنّ المنحوتة ليست مجرّد كتلة من حجر، بل هي لوحة فلسفية عميقة ببساطتها، وغنية بدلالاتها، يفوح منها التاريخ مع نفحات الحاضر، يجعلها تقترب منّا بقبلة وانحناء وعاطفة. والأهم تصالحه مع المرأة رغم حدّته في التعامل معها. ولا نجامل إذا أشرنا إلى أنّ تصالحه هذا يفرض عليه البحث في الأمومة والعشق وما بعدهما. قد تحاكيك المنحوتة اللوحة برسالة غدر، وقد تشاركك الغرام وسرير الانتقام، لا مجال للانفلات منها، ومن المستحيل ألا تستوقفك رغم انزواء مكان العرض، وحجم الزاوية.
ببساطة، المرأة نصف الفنان، تغمره لتصبح هي كلّه حينما يأخذ إزميله ويبدأ الانتقام. قد يصرخ حجره من وجع عنفوانه، ولكنه، وبسرعة، يصمد فرحاً لأن وشاح المرأة فرض جمال الشكل والحضور والعطر.
ليس مهماً أن يترجم الفنان أحاسيسه فقط، بل الأهمّ كيف يعبّر عن فيضانات ومدارك وبراكين ما يشعر به وما يرغب قوله، وإذا كان متمكّناً من أدواته يتربّع على عرش البوح، ويصبح حجره نصّه، قماشته أوراقه ناطقة لا محال، وهذا ما فاض به عفيف آغا عبر تجربة أنيقة تستحقّ أن نقف عندها، ونسلّط الضوء عليها، لا تعصّباً، إنما احتراماً لجهود إنسانية إبداعية لم نعد نجدها في زمن التراشق الافتراضي، وتقنية التواصل الاجتماعي الآلي، بعيداً عن زمن المسافات والروح الإنسانية الفضفاضة.
يلعب عفيف آغا عبر الخطّ والدائرة، يكسر خطوطه حتى تشكّل الانحناء القريب إلى أجزاء الدائرة. لا يريد تصحيح الصورة بقدر أن يجمّل الخلل ويوازي الشكل. لذلك لا يهتمّ بالنسب بقدر تصالحه مع المنظور، فنجد النسب هاربة ومتصالحة، وحاضرة ومهاجرة، ومتّزنة وأنيقة، لا فوضاوية في مساحتها كلّما نظرنا إلى القطعة. هو يحطّم الخطّ الذي ينطلق منه بعد أن حدّد شكل منحوتته قبل أن تولد وتجد النور. يتعامل مع الخطّ بحنان حادّ وحاسم ليوصله إلى نقطة تلاقي مع خطّ آخر فتحدث قبلة مسايرة محاورة كأنّ هذا التلاقي حالة غرامية تُحدث ولادة، وما أجمل فعلة خطوطه حينما تلتقي معاً لتُحدث صدمة بصرية نعشقها على الفور.
لا انفصامات في حركته رغم فهمه لغة تلاقي المحبّين في فراش واحد، والأثر الجميل الذي سيوصلهما بعد كهرباء الروح، هو يتعمّد الاحتكاك، ويسعد بالايحاءات الجنسية غير المرئية في نصّه لكنها مفروضة نتلمّسها ونحيطها ونحبّها كلّما اقتربنا من منحوتته.
فعلاً، هذا الفنان يشبهنا بصمت نظراته، وبفعل قوله وعمله ومصنوعاته، ليس مقبلاً علينا من عالم لا نعرفه بحجّة أنه فنان، والاختلاف مع كوكبه واجب لكونه من كوكب فضائيّ يفرض حالة مألوفة، بل إنها حالة مرضية ليست موجودة مع عفيف آغا، وقد نجدها عند غيره. لذلك، نمرّ على أعمال غيره مرور اللحظة المسروقة، ولا تستوقفنا، ولا تخاطبنا، ولا نجلّها، ولا نعيرها اهتماماتنا مهما كان صاحبها مشهوراً، أو محشوّاً بفضلات بعض إعلامنا الجامح إلى الفراغ والسذاجة.
بوح عفيف آغا في النحت حلمنا وحلم المنحوتة التي أصبحت مهجورة في عصرنا الحالي، وأعادها هذا الطفل المشاكس، والهَرِم المعاكس، والشاب المنطلق إلى نصّ جديد يخدم اللحظة وما بعدها، وصولاً إلى حوار نحتاج إليه في زمن العتمة والقتل الماجن، وثقافة الهمبرغر، والقراءة السريعة غير الهادفة وغير المكتوبة.