سعاده ينتفض على خيانة الجمعية الأمميّة ويعلن 14 كانون الأول يوم الحدود الشمالية

كتب نظام مارديني

كنّا قد نشرنا في عدد البناء بتاريخ 3/12/2016، قراءة في العوامل التي أدّت إلى خسارتنا لواء اسكندرون وتخاذل الكتلة الوطنية التي اعتبرت خسارته لا تستحق الاهتمام، في حين وضع زعيم الحزب السوري القومي الاجتماعي أنطون سعاده كلّ جهده الدبلوماسي والسياسي، واستنفر أعضاء حزبه في سبيل الحفاظ على اللواء والحدود الشمالية كجزء لا يتجزّأ من الأرض السورية والأمّة السورية.

هنا قراءة ثانية، ولكن استكماليّة مع معلومات جديدة، لعلّها تُفيد في بقاء اسكندرون شعلة لا تنطفئ في ذاكرة أجيالنا.

ستكون ذكرى 14 كانون الأول من كلّ عام ذكرى أليمة على أبناء الأمّة جميعاً، فما مرّ عام على المذكّرة التي قدّمها الحزب السوري القومي الاجتماعي في 1936 إلى العصبة الأمميّة والأمم المتمدّنة ليثبت فيها سوريّةَ الاسكندرون، القطعة العزيزة على سورية، حتى كان العلم السوري يُطوى عن اللواء. وقد أعرب سعاده في الكتاب الذي أرسله إلى المفوّض السامي عن استعداد السوريّين القوميّين للدفاع عن اللواء والاحتفاظ به مهما كلّف الأمر، مؤكّداً «أنّ الاتفاقية التي سلّمت بموجبها لواء الاسكندرون إلى تركيا هي اتفاقية باطلة، وتكون خيانة لعهدة الجمعية الأممية، وتعدّياً على أرض الوطن وعلى حقوق الأمّة السورية الصريحة».

وفي هذا الصدد، يشير الباحث رياض نجيب الريّس صاحب شركة رياض الريّس للكتب والنشر بالقول: «كان موقف الحزب السوري القومي الاجتماعي وزعيمه أبرز المواقف وأكثرها وطنيّة بالنسبة إلى الاسكندرونة وقضيّتها». ذلك أنّ سعاده لم يكتفِ بأن أعلن يوم 14 كانون أول يوم الحدود الشمالية، بل هو بادر منذ اليوم الأول لبدء التنفيذ العملي لسلخ لواء الاسكندرون عن جسم سورية إلى وضع المذكّرات وتسطير المقالات والتحرّك في أكثر من اتجاه، بالرغم من أنّ سعاده كان في عامي 1936 1937، أي في الفترة التي تمّ فيها سلخ اللواء في حرب مع الدولة الفرنسية المنتدبة وأدواتها المحليّة، فما أن يخرج من السجن حتى يعود إليه. وفي الوقت ذاته أيضاً، كان عليه أن يولي الخطر الصهيوني في الجنوب السوري الكثير من اهتمامه، ويوجّه القوميين الاجتماعيين إلى التصدّي بكل قواهم لهذه الغزوة الاستيطانية الشرسة، راجع كتابه «قضايا خاسرة» .

واللافت للنظر والخطير، إن صحّت التسمية، هو توقيع سورية على معاهدة الاستقلال التي عُرفت بمعاهدة 1936، فحسب المعروف أنّ الوفد السوري المفاوض في باريس مؤلّف من هاشم الأتاسي، فارس الخوري، سعد الله الجابري، جميل مردم بك، إدمون الحمصي، مصطفى الشهابي، نعيم الأنطاكي، أحمد اللحام وإدمون الربّاط ، وقّع رئيسه هاشم الأتاسي على نصوص المعاهدة التي منها القبول بكلّ ما وقّعت عليه الحكومة الفرنسية من اتفاقيات سبقت توقيع المعاهدة، بما في ذلك ما يخصّ إنشاء الوطن القومي لليهود في فلسطين، وإنشاء دولة لبنان، وعلى ما اتّفقت عليه فرنسا مع الأتراك في ما يتعلّق بمنطقة لواء اسكندرون!؟ وإزاء كلّ ذلك عمّت التظاهرات مختلف المدن السورية ضدّ الفرنسيين وضدّ الحكومات السورية المتعاقبة.

وبنكوث الحكومة الفرنسية عن تنفيذ وعودها وتصديق المعاهدة، قدّم رئيس الجمهورية هاشم الأتاسي استقالته محمِّلاً الحكومة الفرنسية المنتدبة تبعة ما يحدث. وعلى أثر ذلك أيضاً، أصدر المفوّض السامي الفرنسي المسيو بيو في 7 تموز 1939 قراراً بوقف تنفيذ الدستور السوري وبحلّ مجلس النوّاب. وفي اليوم الثاني، كلّف السيد بهيج الخطيب، المعروف بتعاونه مع المحتلّ الفرنسي، بتشكيل حكومة المديرين تحت إشراف ومراقبة المفوّض السامي بتسيير أمور الدولة. وفي زمن هذا الموظف الموالي لفرنسا سُرق لواء اسكندرون، وتسلّمت الحكومة التركية اللواء من المحتل الفرنسي في احتفال رسمي يوم 23 تموز 1939، وهو اليوم الذي أُنزل فيه العلم الفرنسي ورُفع فيه علم اللص السارق.

وقبل ذلك حلّ المفوّض السامي الكومندان كوليه «عصبة العمل القومي» التي أسّسها الدكتور زكي الأرسوزي وأغلق جريدتها «العروبة»، وأغلق نادي العروبة وسجن الشباب السوريّين المقاومين لأطماع تركيا والمحتلّ الفرنسي، وبذلك اكتملت الحكاية الفرنسية التركية في سرقة لواء اسكندرون وملحقاته، مرسين وطرسوس وكيليكية وأضنة ومرعش وعنتاب وكلس والبيرة وأورفة وحران وديار بكر وماردين ونصيبين وجزيرة ابن عمر.

تقرير رئاسة الأركان التركية

لم تكن القيادة التركية منذ أواخر السبعينات ومطلع الثمانينات تنظر باطمئنان إلى موقف دمشق من مسألة اللواء، بل إنّ تقريراً أعدّته رئاسة الأركان التركية في حزيران 1980، توصّل إلى قناعة بأنّ «الخطر من الجنوب، وأنّ العدو الأكبر لتركيا هو سورية». وقد سعت رئاسة الأركان إلى تجسيد هذه النظرة في سياستها الخارجية، ويعتبر التقرير مسألة اللواء «بؤرة التفجر» في العلاقات مع دمشق، ويرى أنّ سورية تحرّض المجموعات الإثنيّة الموجودة في «جنوب شرقي الأناضول» ولا سيّما في لواء اسكندرون، وتبعاً لذلك أعدّت رئاسة الأركان تقارير عدّة واتّخذت إجراءاتٍ عملية تحت عنوان «وثيقة التهديد الداخلي». كتب رئيس الأركان آنذاك، ورئيس الجمهورية التركية السابق كنعان إيفرين، في التقرير المذكور يقول: «منذ اللحظة التي تحرّرت فيها سورية من الانتداب الفرنسي وهي تسعى من أجل إلحاق أراضي «هاتاي» اسكندرون بها، وسورية التي لم تعترف بضمّ تركيا لـ«هاتاي»، ولا باتفاقية 23 حزيران بين تركيا وفرنسا، تواصل إظهار «هاتاي» ضمن حدودها الوطنية. ومن أجل تحقيق آمالها بخصوص «هاتاي»، تعمل سورية بوضوح وبصورة سريّة على الإكثار من النسل وسط السكان العرب، ولانتقال أكثريّة ملكيات الأراضي إلى المجموعة العربية، ولنشر الثقافة العربية، وتسعى سورية كذلك إلى ضمانة إجراء استفتاء في إقليم «هاتاي» في اللحظة التي يكون فيها المناخ الدولي ملائماً لذلك».

وتضمّن تقرير رئاسة الأركان التركية أرقاماً حول التوزيع الإثني في اسكندرون، شكّلت المجموعات الإثنية غير التركية فيه نسبة 49،69 ، في حين نشرت مجلة «نقطة» التركية جدولاً بالتوزيع الإثني في الاسكندرون يختلف بعض الشيء عن هذه الأرقام.

وهذان الجدولان يختلفان عن آخر إحصاء نشرته تركيا للّواء، وهو «698 ألف تركي، و340 ألف عربي و31 ألف كردي وأربعة آلاف شركسي و140 ألف يوناني وألف أرمني».

مؤتمر معهد السلام الأميركي

إذا كانت المسألة الكردية هي العنوان الرئيس في هذه المرحلة التي تختزل فيها كلّ مسائل الضغط على تركيا، فإنّ إثارة مسألة اللواء بهذه الجديّة والحدّة خلال السنوات الأخيرة مؤشّر آخر على التوتّر في العلاقات، فالأتراك يخشون إذا ما أُعيد اللواء أن يكون ذلك بداية مطالبة سورية لاستعادة كامل المناطق المحتلّة من قِبل تركيا، وهذه المناطق هي: أضنة، عنتاب، أورفا، ديار بكر، ماردين، هكاري، فضلاً عن مجرى نهرَي الفرات ودجلة اللذين يخصّان الشام والعراق.

يبقى أنّ المفاجأة التركية كانت في إثارة هذه المسألة في مؤتمر خاص عقده معهد «السلام الأميركي» في واشنطن في حزيران 1994. هذا المؤتمر أثار حيرة شديدة للعديد من المشاركين 300 مشارك ، ولا سيّما الأتراك منهم، ولفتَ الأنظار وجود أسماء مهمّة من الذين يديرون سياسة واشنطن التركية في الصفوف الأولى من الاجتماع. وفي مقدمة هؤلاء مورتون إبراموفيتش، السفير الأميركي السابق في أنقرة ومدير مؤسسة «كارنيجي» للأبحاث، والمعروف بصلاته الوثيقة بوكالة الاستخبارات الأميركية «سي. آي.أيه»، وغراهام فولر، الموظف السابق في الاستخبارات الأميركية والخبير الآن في مؤسسات «إنتاج الفكر» في الولايات المتحدة، كذلك شارك هنري باركي، أحد أهم الأسماء المعنيّة بالشوون التركية في تلك الآونة، وهو من منظّمي هذا الاجتماع.

الرسائل التي وجّهها المشاركون السوريّون في المؤتمر شكّلت مفاجأة كاملة للمشاركين الأتراك، فقد أشار مندوبو سورية إلى مسألة ضمّ تركيا للواء اسكندرون بصورة غير محقّة العام 1939، قائلين إنّهم ليسوا أبداً في وارد التراجع عن مطلب استعادة اللواء، وعلى الرغم من مرور خمس وخمسين عاماً، فإنّ حقوق سورية في اللواء باقية، وهي مصمّمة على تحصيل هذه الحقوق عبر الأمم المتحدة. هذا الموقف السوري دفع المعلّق الصحافي التركي الشهير في صحيفة «صباح»، محمد علي بيراند، إلى القول: «لنكن مستعدّين.. إنّ سورية إلى جانب دعمها حزب العمال الكردستاني على وشك أن تثير من جديد، وفي وقت قريب، مسألة اسكندرون التي لم تطرحها منذ مدة طويلة. إنّ التوقّف وبهذا القدر من الحدّة والإصرار عند هذه المسألة مثير حقاً، وهذا يعني أن أشياء تُطبخ في واشنطن، وأنّ الجهد مُنصبّ الآن على كيفيّة توزيع هذه الطبخة».

ويرى الأتراك أنّ سورية، كما كلّ جيران تركيا، تحاول الاستفادة من اللحظة الأكثر ضعفاً في تاريخ تركيا، وتطرح الصوت عالياً مطالبة، كما حدث في مؤتمر واشنطن، باستعادة اسكندرون، في حين يرى المراقبون أنّ دمشق تقوم بـ«لعبة» استراتيجية بارعة، ولذلك تستهدف حالياً «جعل تركيا ضعيفة» استعداداً لوقت ينقلب فيه التوازن الإقليمي لمصلحتها.

إنّ الجيل السوري الحالي لا يزال يردّد هذه القصيدة للشاعر الشعبي، الأمين الراحل عجاج المهتار:

«الاسكندرونة» لنا، ملكنا، وفيها «تخوم»

بتحدّها، ورواحنا عليها تحوم

ما منترك شبر منها، تالسّما

تهبط عسطح الأرض وتذرذر نجوم.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى