حلب السيف الترس والراية

أياد موصللي

نخاطب حلب في عيد تحريرها وعيد نظافتها وعبَر انتصارها بقصيدة ابنها البار عمر أبو ريشة ونقول:

وحدي، هنا، في حجرتي

والليلُ والعام الوليدْ

والكأسُ والغصصُ الحرار

وغربةُ الحلمِ البعيدْ

وتساؤلُ القلقِ المرير

ووطأةُ الصمتِ المديدْ

وحدي، وأشباحُ السنين

العشر مائلة الوعيدْ

كم حَطَّمت مني ومن

زَهوي ومن مجدي التليدْ

وقفتْ لِتَنشرَ كلَّ جرحٍ

كان في صدري وئيدْ

من صَيحة الوطنِ الطّعين

ورقدة الوطَنِ الشهيدْ

وكآبة الشيخِ الطريد

ودَمعة الطفلِ الشريدْ

وتَملْمُلِ الأحرار في

أغلالِ حكَّامٍ عبيدْ

وتكالُب الأقزام فوق

ذيولِ عملاقٍ عنيدْ

وحدي، هنا، في حجرتي

والجرح والفجر الجديدْ

ورسائل شتَّى تقول

جميعها… عاماً سعيدْ!

حقّقت حلب وقفة العزّ، وكرّرت صفحات المجد في تاريخها وملأت تاريخ سورية بالأسماء والمواقف البطولية وأغنته بالفكر والعلم، وكانت راية خفّاقة في كلّ مراحل الحياة من بدء وجودها إلى يومنا هذا.

فهي تُعتبر أكبر مدينة في الجمهورية الشامية ومركز محافظة حلب، فهي أكبر المحافظات وتقع في شمال غربي الشام، وتبعد حوالى 350 كلم عن العاصمة دمشق، ويتجاوز عدد سكانها أربعة ملايين، وتُعدّ أقدم مدينة بين مدن العالم، وكانت مقرّاً ومستقرّاً لأقدم الحضارات وأعرقها، فقد حضنت العديد من الحضارات الآشورية والأمورية والآرامية، الحثية والصليبية.. كما تعرّضت للاحتلال والحكم الأجنبي من الرومان إلى الفرس والمقدونيين، البيزنطيين، والتركية العثمانية.

وسياسياً، كانت حلب عاصمة الدولة الحمدانية إبّان الحكم العباسي ومقرّ سيف الدولة وأبو فراس الحمداني.

وأظهرت الآثار الموجودة أنّ حلب تُعدّ من أقدم مدن العالم التي لا زالت تتمتّع بالحياة والاستمرارية منذ تكوينها حتى اليوم، وامتازت حلب بالتفوّق التجاري، والعسكري. فموقعها الجغرافي استراتيجي، حيث تقع في آخر طريق الحرير الذي يجتاز آسيا وما بين النهرين، وتعتبر ثالث مدينة بعد إسطنبول والقاهرة، وهي العاصمة الاقتصادية للشام.

تعرّضت حلب للكثير من الاعتداءات والضربات منذ سقوط الدولة العثمانية وتراجعها، حيث أدّى التآمر بين الدولة الإفرنسية التي احتلّت مع بريطانيا سورية بموجب اتفاقية سايكس ـ بيكو ومصطفى كمال رئيس جمهورية تركيا الحديثة إلى سلخ لواء الاسكندرون ومنحه لتركيا، وهو الذي كان متنفّس حلب البحري، كما أعطت لتركيا الكثير من المناطق والمدن الشمالية.

وتمتاز حلب بالآثار، حيث تُعتبر وفق تعريف اليونسكو موقعاً مميّزاً وهامّاً للتراث العالمي، ولُقّبت بعاصمة الثقافة الإسلامية في العالم العربي.

تاريخ حلب مرّ في جميع المراحل والعهود، واحتلّتها الكثير من الدول القديمة والحديثة من الإسكندر المقدوني حتى الإفرنسيّين. ولحلب دور أثريّ روحيّ كبير، ففيها الأديرة والكنائس ذات الأبعاد التاريخية والفكرية. وأشهر ما يُعرف فيها من الآثار الدينية دير مار سمعان العمودي، المعروف بسان سيمون، ومقبرة وضريح القديس مار مارون مؤسّس الطائفة المارونية في منطقة براد غرب حلب، وقد زاره رئيس الجمهورية الجنرال ميشال عون قبل تولّيه الرئاسة منذ عدّة أعوام.

وفي التاريخ العربي ـ الإسلامي الحديث، أصبحت حلب جزءاً من الدولة الأموية وقد فتحها خالد بن الوليد عام 637 الميلادي، وإبّان حكم الدولة العباسية أصبحت عاصمة للدولة الحمدانية ومقرّاً لسيف الدولة، وكانت من أهمّ متاريس العالم الإسلامي في وجه الهجمات البيزنطية، وتعرّضت لمحاولات احتلالها من قِبل الحملات الصليبية التي حاصرتها ولم تتمكّن من دخولها بسبب متانة وقوة تحصيناتها، وأصابها تدمير زلزالي دمّر قسماً كبيراً منها ومن محيطها.

وخضعت حلب للحكم الأيوبي، وهاجمها هولاكو واحتلّها وذبح سكّانها بوحشية، وكذلك تعرّضت بعد تحرّرها للاحتلال المغولي للمرة الثانية على يد القائد المغولي الشهير تيمورلنك، الذي ذبح معظم سكّانها وبنى تلّاً من جماجمهم التي بلغت 20 ألف جمجمة.

وبعد نشوء الدولة العثمانية أصبحت حلب عاصمة بلاد الشام، نظراً لقربها من إسطنبول، وبقيت تحت الحكم العثماني حتى نهاية الحرب العالمية الأولى، حيث ضُمّت إلى الحكم الإفرنسي.

ولعبت حلب دوراً هامّاً في الحياة السياسية والاقتصادية، فقد ضمّت أهمّ المعامل الصناعية والمؤسسات التجارية والزراعية، وهي مركز هام من مراكز الشام الزراعية، وخاصة القطن ومعامل النسيج. وتُعتبر حلب العاصمة الاقتصادية في الجمهورية الشامية، وبرز منها عدد كبير من السياسيين ورؤساء الوزارة ورئيس للجمهورية هو أمين الحافظ، وأبرز مشاهيرها أميرها وحاكمها الشاعر أبو فراس الحمداني، وهو من قبيلة الحمدانيّين، القبيلة العربية التي حكمت شمال بلاد الشام والعراق، وكانت حلب عاصمة حكمهم. واشتهر فيها إبراهيم هنانو، وهو من بلدة كفرتخاريم، عاش في حلب وقاد الثورة السورية في وجه الإفرنسيين ومات ودفن فيها، وتحمل الكثير من المعالم والأحياء والشوارع اسمه. وعلَمها الخفّاق، الشاعر والأديب والدبلوماسي عمر أبو ريشة، وفيها قلعتها الشهيرة.

وحاضر حلب لا يختلف عن ماضيها، فقد تعرّضت للمؤامرة التي أُعدّت لسورية بدءاً من الشام وامتداداً إلى العراق، وهاجمها مغول العصر الحديث من التكفيريّين واحتلّوا قسماً كبيراً من أحيائها ومناطقها الصناعية. فكّكوا المصانع والمعامل والمؤسسات الاستراتيجية، ونقلوها بأجمعها إلى تركيا. كانت حلب تضمّ أكبر وأهمّ مصانع الأدوية في المنطقة، وتصدّر منتجاتها الصناعية إلى معظم الدول العالمية. قتل الإرهابيون الكثير من السكّان واعتدوا على الممتلكات، دمّروا الأديرة والكنائس، هدموا المساجد والآثار الدينية والمدنية.. خطفوا رجال الدين.. قتلوا ابن مُفتي الجمهورية الشيخ أحمد حسون لأنّه رفض أن يؤيّد دعواهم وأباطيلهم.. وشهدت أحياء حلب دماراً أعادنا إلى ذكريات هولاكو وتيمورلنك وقادة المغول الغزاة ووحشيّتهم البربرية. وتمترس التكفيريّون في مساكن هنانو، صلاح الدين، بستان القصر، السكري، الجامعة والعديد من الأماكن كالشيخ سعيد، وبستان الباشا وغيرهم.

استولى المعتدون على كلّ ما وقع تحت أيديهم من مأكل وملبس وآليات ومعدّات، وقد دبّت المجاعة بين السكان، تاجر المسلّحون بكلّ شيء وحلّلوا الحرام ولم يتركوا ما يدرّ عليهم بالفائدة إلّا ووضعوا اليد عليه.

أربع سنوات وأهالي حلب يعانون، والجيش والقوى المؤازرة يعملون على إنقاذ حلب من عدوّ دمّر الحجر والبشر.. قدّموا الشهداء والتضحيات لإنقاذ المدينة بأهلها وتاريخها وحاضرها، ليبقى مشرقاً مزدهراً كماضيها، وتبقى سيفاً وترساً وراية لأمّة أبت أن يكون قبر التاريخ مقرّاً لها في الحياة.

وانتصرت إرادة الحياة، وتمّ إنقاذ حلب بعد حرب شاقّة مع جماعة نريد أن ننتصر بها ونعزّها، وتريد أن تنتصر علينا لتسحقنا وتذلّنا. وفيهم يصحّ وصف الشاعر أبو ريشة:

هي سكرة المذبوح مال بعنفه

ونزاع على السكين نزوة خائرِ

أرأيت كيف تجمَّعت هَبوَاتها

في عاصفات زمازم وزماجِرِ

وعدت على أرض الكنانة رعَّفَ

الأحقاد شرّاب النجيع الغائر

فمشى إليها كلّ أروع غاضبٍ

وخطاه خوض ملاحمٍ ومجازر

هيهات ما لانت مؤمن

مهما تحدّتها غواية كافر

يا طول ما انَهدَّ الحديد مبعثراً

قطعاً على خشب الصليب الطاهرِ

وترى الضلال على سنا أعتابها

شلواً تجرّره جباه جبابر

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى