محمد ناصر الدين يفتح «فصل خامس للرحيل» باباً أوّلَ لتدوير نصّ الحياة!

النمسا ـ طلال مرتضى

كثيراً ما ننساق وراء مقولات نقدية أقرب إلى هالات خلابة، هدفها خلق ضجيج خاوٍ إلّا من أناه، يحاكي خصوصية المُنجَز الأدبي. على سبيل المثال لا الحصر، خصوصية القصيدة النثيرة أو الحداثية.

في القول بعض ادّعاء، فإنّني أتلمّس المقولة الشعرية كحالة عصيّة على القوانين، أيّ قوانين. سواء اقتربت منها أو لم تقترب. ليس عناداً بل هي حالة تسليم تشي بأنّ أيّاً كان حرص الشاعر على خصوصية قصيدته، فإنّ مؤثرات اللغة والبعد التاريخي، كذلك الأفق الثقافي، والعصر والمحيط، هذا كلّه يحتلّ موقعاً للقصيدة على الورقة البيضاء. وهذا ما يفضي إلى أن القصيدة بقدر ما تتأثر تُؤثّر، وبقدر ما تتجاوز وتحرّك فهي تجمد وتسكن، وبهذا الجدل تستمرّ الحياة في داخلها.

عبر هذا المدخل العريض، فتح الشاعر اللبناني الدكتور محمد ناصر الدين، «فصل خامس للرحيل» ـ ديوانه الأخير الصادر عن «دار النهضة العربية» 2016 ـ ليضع لواعجه كلّها على طاولة التشريح، من أجل تبيان دلالة إشاراتها، أي سيميائها، الموسوم، كما في المعاني والبيان والبديع ليس انحيازاً للقصيدة الحدثاوية، التي ارتأت التخلّي دونما شرط عن جرسها الموسيقيّ، على أن تحتفظ ببهائية راويها بعينه وحضور صوته. بل هو شغف العروج نحو خلابتها البنائية وتشكيلها البديع، وهذا ما تجلّت عليه قصيدة محمد ناصر الدين، في تشكيلها البانورامي والمحايث:

كل الاحتمالات كانت ممكنة:

أن يلهو بقطع الخشب…

كما يلهو الأطفال بلعبة ليغو جميلة

أو أن يجعل مثلاً منها جذوعاً

يضع الورق الأخضر قبعات في رؤوسها

أو أن يهمس في أُذُن أمّه:

سأنحت للطرواديين المساكين حصاناً متيناً

ثمّ يجمع العدّة قطعةً قطعة

حين ينتهي أبوه من العمل.

ابن النجار المسكين

لم يصنع من الخشب

إلّا صليبه.

«فصل خامس للرحيل»، أخذ النصّ الشعريّ النثير نحو مفازٍ جديد يقوم على سرد حوامله من مكان وشخصيات، من دون الركض وراء عامل الزمن الذي قد لا نجد له قيمة معنوية أو إنسانية. وهذا ما يؤصّل مقولة أنّ النصّ الشعريّ أضحى قادراً على استيعاب الكثير من خصائص النصوص السردية، حتى صارت الحدود بين الشعر والنثر، بحسب ادعاء «ياكبسون»، أقلّ استقراراً من الحدود الإدارية للصين.

حين نُدفَنُ غداً

سيكون دوماً بستانيون جيدون

في الحديقة

وحين ينحنون قليلاً فوق الأرض

ليطمئنوا أنّ الوردة تشقّ جذرها بثقةٍ

نحن أيضاً

نتحسّس هيكلنا العظميّ قليلاً

نعتذر بشدّة عن غبارنا الكثيف

نتبخّر

نرتّب فصلاً خامساً للرحيل

نترك للوردة التراب كلّه.

لم تكن قصيدة محمد ناصر الدين تدور حول محورها الأساس فقط لتكتسب طاقتها الخلّاقة، بل تشرّبت ديناميتها وسِماتها من منهل البلاغة الوصفية، حين ذهب متقصّداً نحو توظيف التقنيات الشعرية كلّها مثل الجناس والطباق والاستعارة… إلخ، ليقدّم إلى متلقّيه طبقاً شعرياً كاملَ الإبستمولوجية، أي الإيغال في البحث في إمكان المعرفة ومصادرها وطبيعتها.

وهذا ما جعل نصّه الشعريّ، حالة حياة قابلة للتجديد والتدوير، حالة خلق حاملها الشعر، وهي جرعة منشّطة للقصيدة إذ إنه تمكّن من ضخّ أمرٍ ما روحانيّ صوفيّ في نصّ حداثيّ، ترك رؤاه، أي تصوّراته وأفكاره، متحاورة متجاورة حدّ التماهي الذي يجلي غبش التصاوير:

أيها الربّ العظيم

حين تتطاير الأجساد نحوك

في الانفجار

أعِدها إلى الأرض

مثل كرة ترتطم بالعارضة

ثمّة متفرّجون كثرٌ هنا

ستلوّح لك الأمهات بالعباءات السود

وسيضع الأطفال صورتك مع رقم «1»

فوق قمصانهم

ويدقّ الرجال أحرف اسمك الأربعة

أو أسماءك الحسنى بلا نقصان

فوق سواعدهم وعلى الطبول

كلّ ما عليك فعله الآن.

ثمّة مفاز من كلام نام دوح التصاوير التي تركها الشاعر تشفياً، مثل لعنة تأخذنا نحو الشهقة المباحة قبل طيّ الصفحة الأخيرة من فصل وجعنا المستمرّ:

المصابون بالتلاسيميا

حائرون تماماً

أمام ظلالهم السليمة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى