ترامب وتطبيع العلاقات بين واشنطن وموسكو
أسامة العرب
عرفت العلاقات الروسية الأميركية مراحل مختلفة من التوتر، فبعد انتهاء الحرب الايديولوجية بين المعسكرين الرأسمالي والاشتراكي، تشكلت مراحل جديدة من الشدّ والجذب بين القطبين الروسي والأميركي، تلتها حرب القوقاز واستقلال كوسوفو وتجارب روسيا الناجحة للصواريخ العابرة للقارات. وصبّت أحداث ليبيا الزيت على النار بينهما، إذ استغلّت واشنطن ومن خلفها عواصم غربية تحفظ روسيا على قرار مجلس الأمن الدولي بفرض حظر جوي فوق ليبيا ليتمّ تدمير البلد بحجة حماية المدنيين وهو ما عارضته روسيا واعتبرته التفافاً على القرار. وفي سورية ظهرت حدّة العداء بين الطرفين عقب رغبة واشنطن بإطاحة النظام لمدّ شبكة أنابيب نفط عبر الأراضي السورية إلى أوروبا، كما شكلت إيران أيضاً بملفها النووي خط تماس بين روسيا والغرب. هذا وكشفت الحرب في أوكرانيا والاصطفافات المتناقضة بين موالٍ للغرب وداعٍ إلى التمسك بروسيا حليفاً استراتيجياً وتاريخياً، عمّق الهوّة بين موسكو وواشنطن التي لم تستوعب الخطوة الروسية بعودة القرم، والتي كان من المخطط أن تكون القاعدة الأساسية والأقرب لصواريخ الناتو، وتطويق روسيا بالدرع، وهو ما تعتبره موسكو تهديداً مباشراً لأمنها القومي. وقد أثارت الرغبة الأميركية بنشر درع صاروخية في بولندا وتشيكيا غضب ومخاوف روسيا الاتحادية التي رأت في الأمر تهديداً لها، لا سيما بعدما تمدّد حلف الناتو شرقاً قبل ذلك إلى أن وصل إلى تخوم الحدود الروسية بدخول العديد من الدول التي كانت تابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي في نطاقه.
أما اليوم، فيسود اعتقاد لدى الخبراء بأنّ رغبة الرئيس المنتخب دونالد ترامب في انكفاء أميركا العالمي يعني تلقائياً إقرار واشنطن بتقاسم مناطق النفوذ مع موسكو على قاعدة التوافق معها من دون أخذ أيّ اعتبارات للأطراف الدولية والإقليمية الأضعف. ويذهب البعض إلى أنّ ترامب وبوتين قد يتوصّلان إلى «يالطا2» من دون أيّ شركاء أوروبيين. كما أنّ وعود ترامب بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي، والحدّ من توسّع الناتو شرقاً يضيّق خيارات أوروبا ويدفعها إلى طرق أبواب الكرملين، وفتح صفحة جديدة اقتصادية وسياسية مع موسكو وفق شروط تراعي المستجدات الدولية.
وما يعزّز هذه القناعة، أنّ ترامب اختار صديق بوتين الشخصي ورئيس مجلس إدارة مجموعة «أكسون موبيل» النفطية العملاقة، ريكس تيلرسون، لمنصب وزير الخارجية، والمعروف بأنّ تيلرسون هو من أشدّ منتقدي العقوبات الأميركية على روسيا. كما أكد رئيس وكالة الاستخبارات المركزية الأسبق جيمس وولسي، ومستشار الأمن القومي للرئيس المنتخب، أنّ هناك فرصاً لحدوث تغييرات إيجابية في العلاقات الروسية الأميركية. فيما قال الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في مؤتمر صحافي في ليما عاصمة بيرو، بعد اجتماع قمة منتدى التعاون الاقتصادي لدول آسيا والمحيط الهادي أبيك : «الرئيس المنتخب، دونالد ترامب، أكد لنا استعداده لتطبيع العلاقات الروسية الأميركية. وأبلغته بالمثل. وناقشنا أين ومتى سنلتقي». فيما اتهم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف في مقابلة أجرتها معه صحيفة كورييري ديلا سيرا الرئيس الأميركي المنتهية ولايته باراك أوباما بتعمّد تدمير العلاقات مع روسيا، وأعرب عن استعداد بلاده للعمل مع ترامب. وقال لافروف: «نثق بأن الإدارة الأميركية الجديدة لن ترغب في تكرار أخطاء الإدارة المنتهية ولايتها، التي دمّرت عن عمد العلاقات الروسية الأميركية» وأضاف: «نأمل في أن يقوم فريق السياسة الخارجية التابع للرئيس الجديد باتخاذ خطوات ملموسة في هذا الاتجاه نحتاج إلى جهود جادّة من الجانبين للتغلب على التداعيات المدمّرة لسياسات إدارة أوباما المعادية لروسيا».
ولكن مع كلّ ذلك، وضعت إدارة أميركا الراهنة الكثير من العوائق والتحديات التي تواجه تحسّن العلاقات الروسية الأميركية في المستقبل. فبإيعاز من الاستابليشمنت الأميركي، تجاهلت إدارة الرئيس أوباما نيات الرئيس المنتخب، ووسعت قبل شهرين من تسليم البيت الأبيض إلى موفده الجديد قائمة العقوبات المفروضة على روسيا بسبب الوضع في أوكرانيا، لقطع الطريق على أيّ تقارب مستقبلي محتمل بين موسكو وواشنطن. كما فرضت الخزانة الأميركية عقوبات على 6 نواب في مجلس الدوما الروسي، يمثلون جمهورية القرم التابعة لموسكو بعد الاستفتاء الذي أجري في الجزيرة عام 2014، وهم رسلان بالبيك، النائب السابق لرئيس حكومة القرم، وقسطنطين باخاريف، وسفيتلانا سافتشينكو، وبافيل شبيروف، ودميتري بيليك. وبإيعاز من الاستابليشمنت أيضاً، قرّر زعيم الأغلبية الجمهورية في مجلس الشيوخ الأميركي ميتش ماكونيل، دعم المطالبة بإجراء تحقيقات بالتدخّل الروسي في الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة، لينضمّ إلى أعضاء آخرين في الكونغرس من الحزبين الديمقراطي والجمهوري اللذين دعوا إلى التحقيق بمخاطر التدخّل الروسي وكيفية الردّ الأميركي عليه.
فمن المعروف أنّ لصنع القرار في أميركا، أساليب خاصة، وعلى رأسها الشركات المتعدّدة الجنسية، المتمثّلة بالكارتل الصناعي والعسكري الأميركي، والتي تسعى الحكومات المتعاقبة لخدمة مصالحها، نظراً لأنها تملك مقدرات البلاد وتتحكم بالمجمع العسكري والصناعات الثقيلة والاحتياطي الفدرالي المركزي ولوبي رجال المال والأعمال والإعلام والنظام المصرفي الأميركي، ووسائل الاتصال، ومؤسسات استطلاع الرأي، وإدارة البنك الدولي، إضافة الى تحكمها بقرار أقوى قوة عسكرية في العالم. وهنالك أيضاً، اللوبي اليهودي القوي لكونه أكثر من يتغلغل في الكارتل الاقتصادي وفي المفاصل الحساسة في الإدارة الحكومية ومجالسها الدستورية، وفي المجمع العسكري والصناعي، وأجهزة الإعلام على اختلافها.
لكن المشكلة في أميركا اليوم، أنّ روسيا تعدّ بأنها العدو الأول للكارتل الصناعي والعسكري الأميركي لأنها تهدّد مصالح شركاته النفطية المتعدّدة الجنسية، والتي تهيمن بواسطة حروب أميركا الناعمة والعسكرية على أغلبية حقول النفط في العالم. وبالتالي، فإذا توجه ترامب للتعاون الوثيق مع روسيا، فإنّ الكارتل سيسعى لإسقاطه بطرق مبتكرة، وهذا له سوابق في التاريخ الأميركي.
والجدير بالذكر، أنّ ترامب قد وصف خلال مقابلة تلفزيونية مع محطة «فوكس نيوز» قبل أيام، تقرير وكالة الاستخبارات المركزية حول التدخل الروسي بالانتخابات الأميركية بالسخيف. وفي معرض تشكيكه في مصداقية ما جاء فيه، ذكر أنّ تقارير وكالة الاستخبارات الأميركية تُفبرك دوماً، فالتقرير الذي زعم عام 2003 امتلاك نظام الرئيس العراقي الراحل صدام حسين أسلحة دمار شامل، تبيّن لاحقاً أنه مزوّر وأنه كان يهدف لتبرير قرار إدارة الرئيس السابق جورج بوش بشنّ الحرب على العراق. وذهب السفير الأميركي السابق لدى الأمم المتحدة، جون بولتون، أبعد من ذلك باتهامه وكالة الاستخبارات المركزية بأنها أداة سياسية في يد إدارة الرئيس الأميركي الحالي باراك أوباما، ملمّحاً إلى احتمال ضلوعها أيضاً في عمليات القرصنة الإلكترونية التي شهدتها الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة خدمة لأهداف أوباما السياسية داخل الحزب الديمقراطي وفي الانتخابات الرئاسية من أجل فبركة تهمة دعم موسكو لانتخاب ترامب رئيساً للولايات المتحدة.
ويبدو أنّ ترامب يستعدّ لخوض مواجهة مفتوحة الأمد مع الكارتل الصناعي والعسكري، فهل يتمكّن من تحقيق أجندته وفتح صفحة جديدة من العلاقات مع روسيا؟ وكيف سينعكس ذلك على الجمهوريات التي كانت تابعة سابقاً للاتحاد السوفياتي وعلى الشرق الأوسط؟ وماذا يريد ترامب في المقابل من روسيا؟ ولماذا هو مستعدّ كلّ هذا الاستعداد لفتح جبهة مواجهة مع الاستابليشمنت من أجلها؟ ولماذا يهلّل اليمين «الاسرائيلي» كلّ هذا التهليل لفوز ترامب؟ الزمن كفيل بإعطائنا الإجابة الصحيحة!
محام، نائب رئيس
الصندوق الوطني للمهجرين سابقاً