النقد والإدراك الجمالي… «قراءات تغوي الريح» نموذجاً

رحاب القاضي

يرى هويسمان أنّ معيار الفنّ يتلخّص في حدّة الشعور الاستطيقي إذ إن النشوة التي يُحدثها العمل الفنّي في نفوسنا هي التي تدفعنا إلى الشعور بالغبطة، والإيمان بوجود الفنّ الأصيل.

ولكي نشعر بجمال الأشياء لا بدّ من الاقتراب من ماهيتها قدر الإمكان. هذا ما حاولتُ بهذه الدراسة الوقوف عنده، في محاولة للإمساك بمفاتيح العمل الأدبيّ الذي قدّمه الكاتب الزميل طلال مرتضى في كتابه «قراءات تغوي الريح» الصادر عن «مؤسسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» ـ بيروت 2016.

من مدخل أنّ الفنّ هو إعادة النظر إلى هذا الجمال، والذي سيدلي بالنهاية إلى أن إعادة صوغه سوف تختلف من مبدع إلى آخر، وهذا ما جعلني أتمحور حول ما احتواه الكتاب من مزيج كثيف من الدراسات المختلفة لتجارب إبداعية متباينة في خلفياتها الحياتية بزخم، حال شتّى أنواع الأجناس الأدبية والتي زادت في إغناء المشهدية الثقافية معرفة.

بدأ الكتاب بمقدّمة خجولة للكاتب لا تتجاوز التعريف بتلك الأجناس الأدبية في المحتوى ليضعنا بعدها أمام استفاضة تقديمية جاءت للدكتور الناقد نضال الصالح والناقد أحمد علي هلال.

لندخل في خضمّ الموضوعات بشكل مباشر ـ والتي تأتّت على شكل قراءات نقدية ـ ومن دون تبويب أو فهرسة أو مخطط للكتاب، تشتّت ذهن القارئ وتدفعه إلى درب الضياع. ليصار إلى الاحتكاك الفوري كما البداية مع رواية «طقوس العبث» لعبد الرحيم بهير، لنبحر في طريقته السلسة وأسلوبه الشيق في عرض الفكرة ونقدها لننتهي منها إلى رواية أخرى «غربة الذاكرة» لجمّال الجمّال في عرض ينمّ عن ذائقة نهمة في تناول مثل هذه الأعمال لكن ما إن نعتاد على قراءة النصّ الروائي، حتى ينقلنا الكاتب إلى «ليال على الرصيف» ومضات لمحمد آل فاضل، إيذاناً بالاستلاب الكلّي بعد دخولنا في عالم الكلمة والإحساس والفنّ الذي اعتبره فرويد: بمثابة الميدان الوحيد الذي ما زال الفنان يحتفظ فيه بقدرة تعبيرية هائلة ويندفع بتأثير رغباته اللاشعورية إلى إنتاج ما يشبه إشباع تلك الرغبات فتجيء أعماله الفنية معبّرة عن حياته اللاشعورية.

لذا، أتوقف هنا أمام فوضوية قصدية، دوّنت هروباً وخوفاً من الوقوع في رتابة المنهجية التي تؤطّر المقولات، فنجد أنّ الكاتب كان ينتقل بنا برشاقة في تقديم مقالاته بتخفّف، من رواية إلى ومضة، ثم إلى دراسة في الأدب كما في «عصفور على خصر البيلسان» لمريم طارق نصار…. إلخ. ليعيد الكرّة من جديد.

مع أنني أرى لو أنه بوّب مقالاته حسب تصنيفها وأجناسها لخلق ـ ربما ـ حالة تفاعلية مع ما هو مكتوب عنه. وهو المتمكّن ـ أي الكاتب ـ والممسك بالمفاتيح التي تفتح أسرار تلك الأجناس الأدبية من أبوابها، حينما وصلنا إلى درجة التماهي مع كلّ مقالة من المقالات بطريقته الجذب والأسلوب الرائع في ربط الأفكار وتقديمها بطريقة نقدية تداوي الجرح. من منطلق أنّ الفنّ بالنسبة إليه ميدان، وهو سيطرة الإنسان الواعية على عالم المواد والحركات الذي ينبغي على الإنسان أن يستوطنه وعلى عالم الدوفع الباطنية والعمليات الآلية التي تؤلف كيانه الباطني، مروراً بمقولة الإمام علي بن أبي طالب: إن فنون الأدب فيها عون على المرء وأنس في الوجود تعمر به القلوب الواهية وتتغذى به الأبصار الكلّية.

وهذا ما أفضى إلى الفنون الأدبية التي اكتنزها الكتاب بأن تتباهى بجمالياتها ووقعها على النفس الإنسانية وتأثيرها الكبير على المتلقّي. إلا أنه كان من الجمال أكثر لو وجدنا هناك حواشٍ في الكتاب تذكرنا بالمصادر التي أخذت عنها بعض الكتابات أو الأشعار التي وردت في النصوص أو شرحاً مثلاً لبعض المصطلحات. إذ إن القارئ هو من عامة الناس والكتاب ليس لفئة واحدة، وبذلك يتتبع تطوّر اللغة، لأنها كائن اجتماعي حضاري ينمو ويتطوّر بتطوّر المستعمل وبتطوّر الثقافة والمعرفة لدى المتلقّي أيضاً، وبالتالي تنتج اللغة نشاطها وتفاعلها وجمالها.

فالأديب كالفنان يرسم لوحة يعيد تشكيلها مراراً، يحذف، يختصر، يضيف، فهو يقوم بعملية انتقاء واختيار حتى يصل بحواسه كلّها مع العمل إلى الجمال الروحي. وهو ما وجدته بما تركه الأديب والناقد طلال مرتضى بهذه الوقفة القصيرة.

كاتبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى