أرمان قصْدُنا والميلاد
آمنة بدر الدين الحلبي
ها هو القمر يتثاقلُ في مشيته عازماً على الرحيل قبل موعدِ الاقتران الإلهي بالشمس إلى هلال آخر الشهر، تاركاً نوره في بعض القلوب المظلمة عسى ولعلّ تنتفضُ بصيرتها على الواقع المظلم، ويمتدّ بصرها كأغصان الشمس مشرقة في قلوب السالكين وأهل الطريق القاصدين أرمان لاستقبال ميلاد المحبة والسلام.
كنت متعطشة لحياة أرمان كي أستوطن في قلبها الجميل، كما من قبل، وأعيدُ ذكريات الحنين لعشق كان وما زال مسكوناً بروحي، وأغمسُ أناملي بطينة الأرض كي أزرعَ شجر الغار، وأحفظ لجذورها الحنين الأول، تاركة الموت يحمل أقداحه وينصرف، فأعطيها المحبة والسلام، المتسامية بالشوق، المتزايدة بالعشق. سارعتُ الخطى حول المستحيل قبل أن يغادرَ القمرُ للاختفاء فتكسو العتمة أرجاء الكون استعداداً لظهور المحاق.
اتكأتُ على زندِ الريح فعانقتني بصوتها، وغرستْ تساؤلاتها في روحي كي تعرف أسرارها في الليالي المقدسة، فلوّحتُ لها، أرمان قصْدُنا، فحملتني لأكون على أبوابها ليلة الميلاد.
دخلتُ القصر مع نهاية الغروب، فتسللتْ إلى أنفي رائحة الرِّند طاغية من كلّ جانب على رائحة الموت والحرائق، وحيطان القصر ما زالت قائمة بعضها، رغم أنين حجارته، وأشجارها شوّهتها أظافر الغدر، وأنياب المسعورين.
إنه العبير الملتهب في سويعات الليل الذي هبط بقسوة برده، وقوة رياحه، لتبدو بقدّ مياس لم تصدق عيناي فستاناً طويلاً أرجواني اللون بأردانٍ سوداء مزركشة، وما بينهما زخرفة جميلة، معتمرة وشاحاً أبيض اللون تكسوه نجوم خضراء، وخصلات شعرها مجدولة بأغصان الرّند، يفوح من جسدها العبق الجميل وكأنها قيد الاحتفال.
أومأت برأسها سلاماً ولؤلؤ عينيها قاب لحظتين أو أدنى من الهطول متربعة في المآقي، تنفست الصعداء.
قالت: ستّ سنوات ونيّف وأنا قيدُ انتظار، أجالسُ صوتَ الموتِ، ونحيبُ الثكالى، ما الذي أتى بك يا زائرة الليل؟
قلت: أرمان قصدنا والميلاد، لأسمع التراتيل السريانية الجميلة.
تكلمت، ودمع العين يسبقها، لتبرّد عطشها للحديث مع الناس.
قالت: ولدت منذ 12.200 قبل الميلاد أطلق عليّ الأكاديون، أرمان وجعلوني مركزاً لعبادة إله الطقس، وحين استولى الإسكندر المقدوني على المدينة عام 333 ق.م، ليقيم سلوقس نيكاتور مستعمرةً هيلينية في المدينة بين 301 – 286 قبل الميلاد، أطلق علي بيرويا، وكنت المدينة الأكثر أهمية في سورية وانطاكية نظراً لموقعي الجغرافي واللغات التي أجيدها، من السريانية واليونانية، حتى أصبحت مطمعاً لكلّ غريب، وتتالت الشعوب والحروب، والقتل والحياة.
تشدُّ عزائمها بالتأوّهات الدائمة ليصعدَ منها أرواحُ القاطنين في قلب الموت، ورائحة أجسادهم المقطوعة الرؤوس بالمقاصل.
همّت بالمسير لتلملمَ ما تناثرَ من زهر الغار على كتفيها، فنظرت في عينيها الجميلتين لأعرف ذاك الحزن المزروع بين الجفن والرمش.
قلت: انشدي مكنونات قلبك في أذن الليل.
قالت: كانت نبضات قلبي تعزف في روحه أجمل السمفونيات، فتهب الحياة من مراقدها حين كان يأتي على جنح الليل حاملاً معه كلّ الحب.
قال: أحبك حباً لو وُزِّع على العالم لامتلأ العالم بحبك.
قالت: كيف أجرِّدُ جسدي من تلك الروح لأنفخها في قلبك.
قال: اجعلي قلبي دثاراً لك يحميك من طيور الظلام، وخفافيش الليل، أخاف عليك منها.
صمتت، وكأنّ قلبها يلفظ أنفاسه الأخيرة، تحترق ببطء على غيابه، وتمضي من ذاكرة الزمان.
قطعتْ همساتِ روحي بصوتها المتهدّج، المقطوعة لهاثه.
قالت: كان ينتشي فرحاً حين يشمّ عطر الرّند من جسدي، ويعزف ألحان العشق بجنون الرغبة، ويهمس قصدنا أرمان في ليلة الميلاد.
قال: حين تقْرَعُ الكنائسُ أجراسَها أعلنُ عليكِ الحبَّ.
قالت: اسقني من حضنِ يديك، قطرة نبيذٍ معتَّق، كي أحيا بعطرك، أنتظرُ الوصايا العشر، وزهر الياسمين.
قال: سأعاقر حبكِ يوم انتصارك يا أرمان، وأجعلُ أصداءَ المعازف ترنُّ من مباسمها.
صمتها تلك المرة كان مؤلماً موجعاً. سمع زفرات قلبها وهو يذرف دموعه.
ما الذي حصل أيّ قدر حاق بها، فانتزع كحل الحياة من عينيها، وأردف الحزن صلبه على حياتها.
قالت: في مثل تلك الليلة صرخَ الموت في روحي، حين حمله الرفاق إليّ يلفظ أنفاسه الأخيرة.
قال: ريثما ينفلق الصبح على جبينك سأكون بقربك، أشمّ رائحة الياسمين من جيدكِ، وفي المساء اغتسلي بعطر الرّند كي أتدثر بشفتيك، وأحقق ألوهية على وجه الأرض باتحاد روحيْن نما العشق فيهما.
قالت: انتظرْ، كي أمرَّ بشفتي على موضع الجرح، بعذب اللّما فيلتئم، وتضجُّ الحياة بمفاصلك.
قال: كان قصدنا أرمان في ليلة الميلاد نقرعُ أجراس الكنائس وأغوص في عينين من خمر الجنان، كي أعيشَ الحب الذي أعلنته عليك، وغواية العشق مع رشفة نبيذ وقطعة خبز من جسد الآلهة.
وانطوى جسدها ينطقُ حزناً، ويصرخُ فراقاً على مَن غادرها ليلة الميلاد، لمن تُقرَع الأجراس؟ ولمن تُسكَبُ الأقداح، ومن يرتشف نبيذ العشق على موائد العشاق.