سيكبر علي… وستنبت الأرض ألف سمير وسمير
زينب برجاوي
سنة بالتمام والكمال مرّت أسرع من لمح البصر علينا منذ استشهاد سمير القنطار.
سنة مع كلّ ما حملته من ألم فراق ممزوج بفخر الانتماء إلى عائلته الصغيرة. قد يخيّل للبعض أنني قد جمعتكم اليوم في هذه المناسبة وفي هذه القاعة لمجرّد استعراض ما كان يملكه الشهيد. لنعرض بعضاً من ممتلكاته الشخصية والعسكرية، أو لإبراز جوانب عدّة من حياته كانت مغيّبة. أو لنعود ونسترجع مع سنين أسْره الطويلة مع ما حملته من رسائله وحربه على السجّان من داخل قضبان حديدية لطالما أغضبت العدوّ.
ولكن، رغم أهمية هذه الأمور كلّها، إلا أنّ هذا المعرض بكافة تفاصيله، هو جزء من عهد ووعد عليّ قد وفيته اليوم في ذكرى رحيل سميرنا الأولى.
قد يتساءل بعضكم عهد لمن؟ ووعد بماذا؟
لا أخفي عليكم سادتي، أنّي ومنذ زواجي بسمير قد عاهدنا أنفسنا وعاهد كلٌّ منّا الآخر، وقطعنا وعداً بل دَيناً ليوم الدين، أن تكون هذه الحياة التي مرّ بها سمير بدءاً من المقاومة مروراً بالأسْر وسنواته الطويلة، وصولا إلى الشهادة، درساً من دروس الصمود. وكان خيارنا توثيق هذه المرحلة.
اليوم، أقف أمامكم جميعاً هنا، وأنظر في عيون سمير مسمّرة، علي يشاركني افتتاح هذا المعرض، وكلماته تصدح في أرجاء المكان تشكرني على وفائي بوعدي له. اليوم يا سمير أنا وأنت نفتتح معرضك، يشاركنا الأحبّة وعدَنا.
اليوم يا سمير علي سيدور في أرجاء المعرض، ويقول للحشد: هذا سلاح والدي، هذه رسالة والدي، هذه ثياب والدي في الأسْر، هل رأيتم فخراً كالذي في عيون علي عند حديثه عن سمير؟
هل سمعتم عن طفل لم يتجاوز الخمس سنوات، ورغم مرور أكثر من 360 يوماً، لا يزال يذكر والده يومياً؟
يا سمير، هاك علي كما حلمت، علي لم ينسَك ولن ينساك، ليس هذا فحسب، بعد أيام قليلة يا سمير، أنا وأنت وعلي سنروي للعالم بكامله قصتك، سنروي القنطار بلسانك وبلسان من عايشوك.
أنهيت يا سمير ما بدأناه سوياً، أنجزنا وثائقيّاً يروي قصتك للعالم. اليوم أقف أمامك وأمام هذا الحشد، أنا وأنت أنجزنا الحلم، لم أشأ أن تمر ذكراك الأولى من دون أن ننجز الحلم، بدأناه معاً، في منتصف الطريق ظننتك خنت الوعد حين رحلت، وتركتني وحيدة لا أعلم كيف أكمل، وعند إكمالي وجدتك عند الوعد ترافقني روحاً وقلباً حتى النهاية، فكان هذا المعرض يا سمير، وبعد أيام سيكون الوثائفيّ، طفلنا الثاني بعد علي.
سنتنا كانت صعبة. فراق سمير الأب ما زال حتى اللحظة يقضّ مضجع علي لفرط تعلّقه به، اليوم اعتاد علي على الفراق، ولكنّه لم يعتد على التوقف عن الانتظار، ما زال يأمل عودة والده المقاوم البطل كما يسمّيه، ما زال ينتظر انتهاء عمله في سورية ويعده بـ«إنو يقعد عاقل وما يعذّب» ليرجع.
هو يعلم في قرارة نفسه أنه لن يعود، ولكن سمير ما تخلّف يوماً عن وعده لعلي، فهل ثمّة من يستطيع أن يقنع علي أنّ «بابا» لن يفي بوعده ويعود؟
أنا وعلي سنبقى بانتظار سمير، سيكبر علي ويكون سمير.
أنا وعلي نشكر كلّ من شاركنا أياماً صعبة مرّت علينا.
عائلتي وعلي وسمير نشكر بسام، أخ سمير، على وجه الخصوص لمشاركتنا هذا المعرض، نشكره على حمله أمانة رسائل سمير لعشرات السنوات، نشكره على الحضن الدافئ الذي كانه لسمير داخل سجنه البارد، بصوته الباعث على الدفء في برد أسر سمير، نشكره على وقوفه إلى جانبنا كما وقف لسنوات طويلة إلى جانب سمير ولم يملّ يوماً.
نشكر قيادة المقاومة، حزب الله بأمينها العام وأبطالها المجاهدين الذين عاهدوا سمير بالثأر له، وسمير يعلم أنهم ما عاهدوه يوماً إلا صدقاً، كما كانت الحرّية بوعدهم.
نشكر قناة «الميادين» بشخص رئيسها الأستاذ غسان بن جدو وكافة العاملين فيها وخصوصاً الذي شاركونا في عمل الوثائقيّ الخاصّ بسمير، والذي سيُعرض بعد أيام.
شكراً على وضع كافة الإمكانيات لإنجاح هذا العمل المتواضع خلال فترة قياسية، لينتهي تزامناً مع هذه الذكرى.
اليوم، اسمحوا لي أن أقول، أننا أكثر قوّة، نحن نعلم تمام اليقين أن سمير قد أدّى قسطه للعلى. نعلم أنّ سمير قد قام بواجبه وأكثر، نعلم أن نهاريا ستروي عشقك للمقاومة وامتداداً جرمانا، نحن نعلم أنه لو شرّع الله النضال في الجنان لصار أوّل المناضلين، نحن نعلم أنك معنا لم تمت، لأن العظماء مثلك لا يموتون، لا ساعات تعدّ أعمارهم بل أفعال تخلّد ذكراهم، وما أكثرها أفعالك من أفعال، ستبقى عبقاً في الأرجاء التي مررنا بها، تذكّرنا بفلسطين، ستبقى في عين علي ذاك الفارس المغوار الذي رغم سطوة الجلاد وقهر السجون امتلك الشجاعة ومارس البطولة، اليوم نعاهدك أنني وعلي سيعجز الجميع عن فكّ قيدنا، لأننا سنبقى ما حيينا سنبقى أسرى حبّك وذكراك.
امتلك من الحرّية ما كسر القيد وسما إلى ما لا يرقى الطير، ستبقى الشاب الذي ما غرّته الدنيا بملذّاتها، ستبقى الشاب الباحث عن السعادة مع بندقيته في ميادين الجهاد، الشهيد عن سابق إصرار وتصميم، ستبقى بذور المقاومة التي زرعتها في الجولان حيّة، ولن تعطش يوماً تربة رويتها مع المجاهدين بدمائكم الطاهرة، وتبقي عيونك في البال لتقصّ ملاحم سطّرتها بطولات، ستبرعم المداميك التي بنيت وتجني ما صبت اليه، ستبقى صلاتك قائمة في محراب الشهادة وتكبيراتك مدوية في ساحاتها، سنرفع دوماً من صدى صوتك، ومن هامتكم الشماء للنصر راية.
سنقرأ بأحداق قلوبنا وصيتك، كلّ حرف منها بوصلة في مدى المستقبل. ستبقى الاسم الذي تبتسم له فلسطين اليوم وغداً، وحين نصلّي الفجر أنا وعلي نيابة عنك في باحتها، ستخرج دوماً أشجاناً إلى الملأ لتتوّعد «إسرائيل» بأنها واهنة.
سيكبر علي، ويكون سمير، وستنبت الأرض ألف سمير وسمير.
ألقيت في معرض «سلام على من صبر» في قصر الأونيسكو لمناسبة الذكرى السنوية الأولى لاستشهاد المناضل سمير القنطار.