بين ركن أبادي وكارلوف…
طارق الأحمد
كثيرة هي المقاربات والتحليلات التي أعقبت كلّ حادث أمنيّ خطير كالذي جرى في عملية اغتيال السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف. ويصحّ هنا إن وصلت بعضها إلى وضع المسألة في مصاف الاغتيالات التاريخية التي أشعلت حروباً كبرى، ومنها الحرب العالمية الأولى التي أعقبت اغتيال وليّ عهد النمسا.
رغم الدبلوماسية الهادئة التي تعاطت بها روسيا مع الاغتيال، والتي لم تترك المجال أمام المستثمرين بالحدّ الأدنى، أو حتى أمام من يمكن أن يكونوا قد خطّطوا لهذا الاغتيال ليكون منطلقاً لحدث كبير يستطيع، بالحدّ الأدنى، إعادة إشعال التوتر بين تركيا وروسيا، إذا لم يفتح الباب أمام تشكّل نزاع أكثر خطورة… ولكن كما قلنا، مع الدبلوماسية الروسية الاحتوائية لهذا العمل يمكن أن نسجّل بالوقائع كما نستدلّ بأوضح تعبير، كالذي جاء على لسان المتحدّث الرسمي في الكرملين ديميتري بيسكوف، عندما ترك المجال الكبير لردّ فعل روسي قوي متاحاً، حيث اعتبر «أنّ الاعتداء على سفير دولة ما يُعدّ اعتداء على الدولة التي يمثّلها». لكن في المقابل، استكملت موسكو فوراً الاجتماع الثلاثي المفصلي بين روسيا وتركيا وإيران حول سورية، وهي بذلك تكون قد وضعت لتركيا دفتر شروط واضحاً وصعباً، يُلزم تركيا بإجراء عمل جراحي لاستئصال ورم سرطاني لطالما عملت على تغذيته حتى استفحل خطره على المنطقة والعالم. وأمّا التمنّع عن ذلك، سواء انكشف ذلك التمنّع بصيغ بهلوانية، أو على صيغة تذاكٍ كما فعل التركي بدخول جيشه إلى مشارف مدينة الباب، أو بتصريح أردوغان الأخير الذي اضطر ناطق قصر رئاسته إلى تكذيبه، قبل أن يكذّب بنفسه كلامه حول الرئيس الأسد، وبعد أن جاء الاستهجان للكلام من الكرملين نفسه، فإنّ ما يُستشفّ من عملية الاغتيال الأخيرة ومن كلام بيسكوف هو أنّ دفتر الشروط الجديد الذي على تركيا تطبيقه يشبه دفتر الشروط القديم تماماً، لكن الفرق الجوهري هو في الملحقات التي تنصّ على عواقب خطيرة في حال عدم التطبيق.
تركيا اليوم ليست فقط تحت المجهر الروسي، بل هي تحت الكمّاشة الروسية مع حلفائها في سورية وإيران، أي في الشمال والجنوب والشرق، وهي أمام عملية الإخراج التاريخية لهذه الدولة التجميعيّة وريثة السلطنة العثمانية وجامعة المضائق البحرية للإمبراطورية الروسية القيصرية في البوسفور والدردنيل، كما أراضي شمال سورية الطبيعية في كيليكيا واسكندرون وغربي أرمينيا، وهذا كلّه من النواحي التاريخية والجيوسياسية الحتمية، وأمّا من الناحية التفعيلية الراهنة وهو السلاح الأمضى والأكبر، والذي أخذ بُعده الشعبي والسياسي والتنظيمي وحتى العسكري، فهي المكوّنات الكردية المتربّعة على سفوح الجبال والوديان في كلّ الجنوب الشرقي بتركيا وشمال سورية والعراق…
إنّها سلّة من الصراعات الهائلة الجديّة، المضافة إلى كلّ براميل بارود الإرهاب الذي نشر فتائل الإشعال في كلّ مكان، ولم يتبقَّ أمام الساسة إلّا نيّاتهم وإراداتهم لاستجلاب إمّا خراطيم المياه للتبريد، أو أعواد الثقاب للإشعال… فعندما يكون التصريح الرسمي بأنّ الاعتداء على السفير هو اعتداء على الدولة وترسل لجنة التحقيق الرسمية الروسية… لتنتظر وهي تنضّد محتويات تقاريرها الفنية دخاناً أبيض، عليه أن يتصاعد من غير مكان كتابة التقرير، أي من المكان الذي تقرّر فيه تركيا الدخول الطوعي إلى غرفة العمليات واستئصال ورم الحركات الإرهابية المتطرّفة كشرط حتمي لعدم دخولها في حرب كبرى هي قادمة إليها إن لم تفعل…
لدى الدولتين الحليفتين روسيا وإيران، استنتاج بأنّ ما يحدث هو صراع طويل… وبأنّ الخصمين الأساسيَّين الإقليميَّين هما السعودية وتركيا، وإيران كما روسيا، لا ترغبان ولم تفتحا المجال لاستعار الصراع مع هاتين الدولتين، فمن مصلحة روسيا وإيران تخفيف حدّة الأزمات والسعي إلى خلق الشراكة، مع الوعي البديهيّ بأنّ ما يقف دون هذا التوجّه هو تلك الجسور العضوية بين النظامين السعودي والتركي مع المنظومة الغربية بكلّ تجذيراتها العميقة، بما فيها المصلحة مع الكيان «الإسرائيلي»، ولذلك كانت الأزمات الكبيرة كحادثة منى، حيث إنّ عملية قتل السفير الإيراني غضنفر ركن أبادي تشبه إلى حدّ كبير ما نعيشه مع حادثة قتل السفير الروسي في تركيا أندريه كارلوف، وكم كان ضرورياً لو أنّ إيران تعاطت مع ما حصل في «منى» وفقاً للقواعد القانونية والدولية التي تضع السعودية في فك الكمّاشة، فيوضع عليها دفتر شروط يلزمها بالتوقّف عن سياسة شريعة الغاب بدعم الإرهاب والتدخّل في شؤون الدول الأخرى.
تعاطي روسيا مع اغتيال سفيرها لدى تركيا ترك الباب مفتوحاً لموقف حازم اتجاه تركيا إنْ لم تطبّق دفتر الشروط القاسي في التحوّل الجيواسترايجي الكبير الذي لا بُدّ أن تفعله لتنجو!
يخطئ من يظنّ بأنّ الهيَجان الإرهابي يمكن أن يتوقّف من تلقاء أصحابه، فالإرهاب بلا سقوف وبلا حدود…