صناعة ترفيه بمعزل عن القيمة… والقيم
جورج كعدي
أشاعت الولايات المتحدة الأميركيّة الحريّ تسميتها «الويلات المتحدة الأميركيّة» مفهوم الترفيه Entertainment لأجل الترفيه، بمعزل عن أيّ قيمة إبداعيّة حقّّة، أو قيم أخلاقيّة متعارف عليها، فالترفيه والتسلية في الإيديولوجيا الليبراليّة الأميركيّة المتوحّشة صناعة كبرى ذات نموّ مرتفع، لها شركاتها ومصانعها، وهي مستقلّة عن أيّ قيمة ولا تنطوي على أيّ وجهة نظر، خارج العملية الاجتماعيّة إذا جاز التعبير. تندرج في مخطّطات واستراتيجيات التلاعب بالعقول عبر ضخّ ألوان متعدّدة من التسلية والترفيه من خلال وسائل الاتصال، وفي مقدّمها التلفزيون الأشدّ تأثيراً وفاعلية بسبب سعة انتشاره وتوجّهه إلى الفئات العمريّة والاجتماعيّة والثقافيّة كافة. ففي «فلسفة» الترفيه الأميركيّة لا ينبغي بثّ أي شيء تعليميّ عبر القنوات التجاريّة التي يتابعها جمهور واسع جداً، ما خلا البرامج الإخباريّة. حتى أنّ الباحث الأميركيّ المتخصّص في قضايا الإعلام المرئيّ وتاريخه إريك بارنو Barnouw يقرّ بذلك قائلاً: «إنّ مفهوم الترفيه، في تصوّري، شديد الخطورة، إذ تتمثل الفكرة الأساسيّة للترفيه في ألا يتصل من بعيد أو من قريب بقضايا العالم الجادة، إنما هو ملء ساعة فراغ. والحقيقة أن ثمة إيديولوجيا مضمرة بالفعل في مختلف أنواع القصص الخيالية، فعنصر الخيال يفوق أهمّية العنصر الواقعيّ في تشكيل آراء الناس». إنّه باحث أميركي يتفوّه بذلك لا باحث عربيّ مناهض لأميركا، ويتحدّث هو نفسه عن «إيديولوجيا مضمرة» للتأثير في آراء الناس، كي لا يقول للتلاعب بعقولهم.
إيديولوجيا الترفيه الأميركيّة هذه انتشرت في العالم مثل الفيروس أو الوباء، إذ تنطوي بالنسبة إلى المستثمرين ورجال الأعمال وأصحاب الرساميل الكبرى على إغراءات جمّة، والمادّة المسوّقة جذّابة وتلقى رواجاً شعبيّاً على نطاق واسع، فالجماهير الواسعة الغوغاء بحسب التسمية الإغريقيّة القديمة تستهلك السلعة نفسها أو النسخة التي تشبهها في أيّ مجتمع، غرباً وشرقاً، شمالاً وجنوباً، لأنّ البشر ميّالون بطبيعتهم وغريزتهم إلى السهولة والمتعة والاسترخاء، وينفرون في المقابل من الصعب والعميق والمستلزم جهداً فكريّاً وتأمليّاً. السطحية جذّابة ومغرية، العمق منفّر وناشدوه من النخبة. والمفارقة أن أرقى المجتمعات وأكثرها ثقافة ورقيّاً فكريّاً وحضاريّاً أوروبا على سبيل المثال تعاني غلبة ثقافة الاستهلاك والترفيه والخفة على الثقافة الحقيقيّة ذات القيمة، غير أنّها تنعم لحسن الحظّ بوجود نخبة عريضة، واعية، مثقفة، متذوّقة، ورافضة بالتالي لثقافة الغوغاء السطحيّة، الفارغة والاستهلاكيّة. في حين أن المجتمعات العربيّة تفتقد وجود مثل هذه النخب العريضة، ونخبها المثقفة محدودة العدد وأقلّ حجماً بكثير.
غير مستغرب، والحال هذه في أميركا والغرب، بلوغاً إلى اليابان التي تعيش منذ عقود فصاماً ثقافيّاً حادّاً بين التقليد والحداثة، لمصلحة الثانية وانحسار التقليد الغنيّ، وعبّر الكاتب المشهور ميشيما عن مأساة وطنه الثقافية بالانتحار «المشهدي» أمام أتباع ومحبّين، طاعناً بطنه بالسيف بالطريقة التقليدية، رفضاً واحتجاجاً… غير مستغرب إذن أن يخضع العالم العربيّ بدوره، عبر قنواته التلفزيونيّة الفضائيّة الوفيرة، ومعظمها ذات طابع تجاريّ إعلانيّ استهلاكي، لإيديولوجيا الترفيه الأميركيّة، إذ ليست مجتمعاتنا الضعيفة ثقافيّاً أساساً أكثر منعة ومناعة من مجتمعات أوروبا وأميركا اللاتينيّة واليابان وسواها، حيث تنتشر الآفة نفسها وعلى نطاق واسع يسعنا وصفه بالعالميّ أو الكونيّ!
إذا كانت لدينا على المستوى العربيّ قنوات فضائية كاملة «الأدلجة» أميركيّاً، ترفيهيّاً واستهلاكيّاً وتنميطاً للعقول مثل مجموعة قنوات «إم بي سي»، فما عسانا نقول كذلك عن قنوات لبنانيّة محلية وفضائيّة في آن واحد مثل «إل بي سي» و«إم تي في» و«أو تي في» و«الجديد»، تدين بإيديولوجيا الترفيه والاستهلاك والخفّة والسطحية عينها؟ ما عسانا نقول عن هذا الانحطاط العميم الذي يتشابه ويتناسخ، تارة من الغرب وتارة أخرى من رحم ذاته، ويتنافس على جمهور محلّي ومغترب وعربيّ محدود ببرامج «منوّعة» تروّج للأغنية المنحطّحة والإثارة الفاقعة والعري المجانيّ والثرثرة السطحيّة، أو برامج الـ«توك شو» لملء ساعات البثّ بأحاديث فارغة غير منتهية، من كل حدب وصوب، ومع «ضيوف» غير جديرين بإطلالة تلفزيونية إذ لا ينطقون بما هو مجد أو مفيد، وهم غالباً على قدر محدود من المعرفة والثقافة! أو برامج «كوميدية» تزعم أنها كذلك مبتذلة، عديمة الذوق وفائقة الانحطاط، أو برامج ألعاب وربح ماديّ، أو برامج «صحافة صفراء» متخصّصة بالفضائح الجنسيّة والعائليّة وغرائب الجنوح والانحراف…
هذا ليس ترفيهاً ما يغزو العالم تلفزيونيّاً، بوحي من إيديولوجيا أميركيّة انتهازيّة، استهلاكيّة، مستهدفة للقيمة والقيم، ومتلاعبة بالعقول… بل هو انحطاط متفش ومنتشر مثل الوباء لضرب إنسانية الإنسان، ولتدمير ثقافته وتقاليده وفرادته الحضاريّة… بضربة تلفزيونيّة قاضية!