المستحيل
بشارة مرهج
رحلت باكراً، أيها الأب الجليل، لأنّ مثلك يُفتقد في أيّ زمان وفي كلّ مكان أنت الذي تحدّيت الزمان والمكان بتواضع المؤمنين وصلابة القديسين. وهبت نفسك باكراً للحقيقة والإيمان فأرشداك إلى القدس التي اتصلت بها نفسك واستقرّ فيها قلبك. في القدس صلّيت مع أهلها وأضأت الشموع ورافقت الأطفال إلى المياتم والناس إلى بيوتهم ثم أخلدت إلى الراحة دقائق فالتمّ عليك ضياء الفجر متكوّماً حول حقيقة كان لا بدّ له، بعدما عزّ النصير، من أن تصل إلى المناضلين الشرفاء الذين عايشتهم ورافقتهم في حلقات فتح.
وضعك الاحتلال خلف القضبان فانحنت القضبان لجبينك العالي، أما القاضي فخجل من نفسه وخاف أن تنقلب عليه، فأفلت منك سريعاً بعد أن وضعك على سلم الطائرة المتّجهة إلى روما. في الفاتيكان سكنت أيها الأمير ناسكاً ولما قابلناك اتكأنا على صخرة، وامتلأنا بالإيمان والتصميم على المضيّ في رحلة العمر. وكم فاضت عيناك بالدموع لما قرأت عن مهرجان ضهور الشوير الذي أقمناه يوم ذاك لتمجيد وقفتك التاريخية وتخليد إرثك الشريف.
قلت لنا… روما، حلب، بيروت كلها الآن تعني لي القدس. فأنا موجود من أجل القدس ومن أجل العودة. وأنا أزورها كلّ يوم، لا بل كلّ ساعة، فلا قوة في الأرض تمنعني من أن أكون مع مدينتي التي صلّى فيها السيد المسيح وطرد منها تجار الهيكل. أقول لكم: لم أخرج من القدس بل شُبّه لهم. وجداني في القدس. عقلي في القدس. شراييني في القدس. أنا من حجارة القدس العتيقة، أنا دربي درب الجلجلة، ولن يتمكن أحد من إخراجي من مكاني الذي اختاره لي القدر.
وبعد سنوات وقفنا معاً في طرابلس الفيحاء وفي مينائها الذي تعوّد ردّ الغزاة. كان وجهك متألقاً وعيناك تلمعان نوراً وحباً ولما صعدت متن السفينة تحوّلت إلى ربان شجاع مستعدّ للاقتحام والاستشهاد. يومها خلتَ البحر داني القطوف وشاهدت غزة على مرمى حجر. أما الطيور فهمست في صدري: يقوم من بينكم رجل جليل ناهز التسعين يكسر الحصار ويحطّم الجدار فابشري غزة وترقبي يا ابنة جلعاد.
نفتقدك اليوم، ونفتقد وقفتك غداً بوجه دافيد فريدمان سفير ترامب بنقل السفارة الأميركية إلى القدس في ظلّ سكوت الأنظمة المترهّلة المتسابقة إلى طلب الرضى.
نفتقدك اليوم، ونفتقد وقفاتك دفاعاً عن القدس التي يبني اليهود من فوقها ومن تحتها ويزوّرون هويتها، ويشوّهون صورتها البهية، ويشرّدون أهلها ويصادرون منازلها، ويقفلون مدارسها ويحاصرون أحياءها ويخنقونها بالطرق الالتفافية والأنفاق الرطبة ويقتحمون مسجدها المبارك ويدنسون كنائسها القديمة ويقتلعون حجارتها الناطقة بالتاريخ.
تواجه ربك اليوم نظيف الكفّ واثقاً من صمود فلسطين بينما يواجه عدوك وعدو الإنسانية بنيامين نتنياهو الشرطة الصهيونية تحقق معه في الهدايا والاختلاسات…
تواجه ربّك اليوم وقد شرفت ثوبك، أيّها السيد، وقد اختبرته بالنار فطلع من بين الرماد ناصع البياض.
هديت شعبك وتقدّمت صفوفه فاستقرّ اسمك في كتب الأطفال وصفحات التاريخ.
أدّيت رسالتك مثنى وثلاث، فما انكفأت أو تراجعت. حتى التحقت بمواكب الشهداء والأبرار والصديقين، فرحمة الله عليك يوم ولدت ويوم رحلت ويوم تبعث حياً.
وزير ونائب سابق