وتغيب «السفير»… فكيف سيكون طعم قهوتنا في الصباح!؟

نصار إبراهيم

لقد شعرت بغصة وأنا أتابع بصمت ذلك المشهد الحزين المَهيب حين يغلق طلال سلمان قلمه، ينهض، يتناول معطفه، يطفئ الأضواء ويغادر مكتبه في جريدة «السفير» بصمت وكبرياء…

لا أدري ما هي المشاعر والأحاسيس والانفعالات والأفكار التي كانت تدور في رأس طلال سلمان وهو يغادر مكتبه كرئيس تحرير لجريدة «السفير» بعد 42 عاماً من الجهد والإبداع والحصار والمطاردة والتهديد والمقاومة.

فـ «السفير» بالنسبة لطلال سلمان لم تكن مجرد عمل في جريدة، لم تكن مشروعاً تجارياً، لقد كانت مشروع حياة كاملة… مشروع أمل… كانت صوت العرب الذين لا صوت لهم…

حين كنت في بيروت كنت «أتناول» جريدة «السفير» مع قهوة الصباح التي كنت أشربها هكذا عفوياً وبدون انتباه، ذلك لأنّ الانتباه والعين كانا يمضيان مع «السفير»… فـ»السفير» هي وجبة العقل والقلب والموقف لحظة الصباح.

من الصفحة الأخيرة نبدأ، من هناك حيث البوصلة التي وعدت بأن لا تخون وجهتها… فكان أول ما نبدأ به النهار أن نعرف أين تتجه البوصلة في ذلك اليوم… نذهب إلى حيث يلقي «حنظلة» ناجي العلي بيانه الصباحي… هناك يتحدّد خط السير في زحمة التفاصيل والأحداث… هناك يتحدّد الموقف الكثيف كفنجان قهوة مرة يأتينا محمّلاً بابتسامة تعادل الدمعة.

بعد أربعة عقود ونيف… تتوقف «السفير»… فكيف يا ترى ستكون صباحات بيروت وصباحاتنا بدون حمامة «السفير» البرتقالية؟

منذ خمسينات القرن الماضي كانت بيروت سوق الصحافة العربية… فيها يجد الإنسان كلّ الأصناف، كانت بيروت عاصمة الصحافة العربية المكتوبة، فلكلّ حزب أو تيار أو جماعة أو طائفة صحيفتها أو مجلتها، كما كان للأدب مجلاته وللموضة والفنّ وأيّ شيء… في هذا الفضاء المفتوح والمزدحم ولدت «السفير»… فتحت عينيها بدهشة طفل… وأعلنت منذ البداية أنها ستشق طريقها الخاص، قطعت على نفسها عهداً بأنها لن تحشر نفسها في زاوية حزبية أو طائفية أو حكومية… ولن تكون في جيب أي نظام عربي…

«السفير» وهي تقطع هذا العهد على نفسها لم تكن تقصد بذلك أنها جريدة لا لون ولا طعم ولا رائحة لها، لم تقصد أن تكون حيادية وسلبية في مواقفها ولغتها ورؤيتها السياسية والثقافية والاجتماعية. ذلك لأنها تعهّدت في ذات الوقت بأنها ستكون «صوت الذين لا صوت لهم»، صوت العروبة والمقاومة بمعناها الشامل، بهذا المعنى أعلنت، ومنذ اللحظة الأولى، بأنها تنحاز لقضايا الأمة وفي القلب منها قضية فلسطين… هذا الانحياز جعلها دائماً تقف عند خط المجابهة الخطر مع سياسات الأنظمة والأحزاب والقوى التي تمسّ روح رسالة «السفير».

بدأب وإصرار نمت الفكرة فأصبحت شجرة شديدة الصلابة والموقف… فتمايزت بجمالها واستقلالها وحريتها وقدرتها على التعبير.

لكلّ هذا فرضت «السفير» احترامها وهيبتها حتى على من يخالفها الرأي والموقف… ولهذا كان الكثيرون يبدأون صباحاتهم وقهوتهم مع جريدة «السفير»… مثقفون وإعلاميون وسياسيون من كلّ الأطياف… يحللون فيتفقون ويختلفون… يغضبون ويشتمون… وربما يسخرون أو يبتسمون من مواقف «السفير»… لكنهم رغم كلّ ذلك يواصلون قراءتها…

بصبر وثبات ومعاناة ومقاومة استطاعت «السفير» أن تنتزع تلك المكانة العالية الأنيقة والأليفة وهي الصحيفة التي لا يدعمها نظام أو دولة أو حزب أو عصابة…

استطاعت أن تفرض حضورها البهي دون أن تفقد وضوحها وانحيازها الحاسم سياسياً وثقافياً وأخلاقياً لمواقف الفقراء والبسطاء والمقاومة.

يقول الأستاذ ناصر قنديل: لم تكن «السفير» مجرد جريدة… لقد كانت جامعة مفتوحة تعلم وتربّي وتقاوم…

نعم صحيح… فقد نجحت «السفير» في تجاوز زواريب الطوائف والحارات والأحزاب والمواقف الهابطة، فلم تنحدر في لغتها وخطابها ومقارباتها… بل سمت فوق كلّ ذلك فكانت مشروعاً سياسياً ثقافياً قومياً تنويرياً تقدّمياً بامتياز.

لقد نجحت في تخطي مصائد الأنظمة حتى الوطنية منها… فلم تتحوّل إلى بوق لأيّ نظام… كما نجحت في تخطي مصيدة الإلتباس والغموض والمراوغة، فكانت بوصلتها دائماً قومية، وطنية وتقدّمية، تتفق بوضوح وبسالة، وتختلف أيضاً بوضوح وبسالة.

حافظت «السفير» على بهائها وعنفوانها وحريتها… فلم تنجح أموال النفط والغاز في إغوائها… بل ولم تتمكن الصحف التي يتدفق عليها الدعم من أنابيب النفط المهرّب في منافستها… كانت تلهث وراء «السفير» وهي تتعجّب من ذلك الاحترام والوفاء والثقة التي تتمتع بها «السفير» من المحيط إلى الخليج… لم تستوعب تلك الصحف الصفراء أو ضيقة الأفق هذا الأمر، ذلك لأنها كانت محكومة بالمواقف المعلبة فبقيت أسيرة لها. لم تفهم تلك الصحف وأربابها ومشغلوها خافية «السفير» التي تعبّر عن الوجدان العربي العميق وهي تقبض على جمرة الكرامة والحرية والاستقلال ولا تحيد عنها.

تلك هي جريدة «السفير» اللبنانية التي لم تراود نظاماً أو حزباً أو طائفة على نفسها، فلم تجبن يوماً عند لحظة المواجهة والاشتباك… فكانت صحيفة مقاومة.

الآن… تغيب «السفير»… سنستيقظ صباحاً فلا نجدها… كما لن تطلّ علينا حمامتها البرتقالية وهي تهدل حين تستعرض المذيعات والمذيعون أقوال صحف الصباح على المحطات الفضائية.

لقد حلقت حمامة «السفير» البرتقالية نحو غابات الأرْز والصنوبر والزيتون والبرتقال والنخيل الممتدّة على مساحة هذا الوطن الكبير… فلديها ألف حكاية لتحكيها…

ربما ذات يوم ستعود إلينا تلك الحمامة البرتقالية محمّلة بالوعد، فتعيد شحن صباحاتنا بالموقف والفكرة والثقافة… بالأمل والابتسام واللغة الرصينة والرشيقة… ربما…

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى