البيت الكبير!

من شرفة مطلّة على نافذة غرفة صغيرة، كانت تتسلّل نظرات إلى ما في داخلها: عائلة مهجّرة مؤلفة من فتيات عديدات وأمّ، بعضهنّ ينام على فراش المساعدات، ممدوداً في كلً زوايا الغرفة، وعلى طرفها سرير. يتبادلن أماكن النوم كلّ يوم للنوم عليه.

وتمرّ الأيام، وكلّ يوم يستيقظن إلى عمل غير مستقرّ. على الاقل يقتتن لقمتهن والتي تجمعهن في نهاية الليل، ويتقاسمنها..

أما للمرآة فلها نصيب من اهتمامهن بشكلهن، فيبادلنها بشكل دوري منذ طلوع الفجر، ليضفن على وجوههن بعض الزخرفات البسيطة لظهور حسن.

بعد فترة، غُطّت هذه النافذة بستارة متواضعة، ولم تعد العيون ترى ما في داخل تلك الغرفة، إلا في ما ندر.

بزغ الفجر ورُفعت الستارة، وكانت فرحة وزغاريد. جلس الشاب إلى جانبها وهما يتناولان شيئاً من فاكهة أو حلوى ممّا وضع على مائدة صغيرة. بينما تختلس الصوَر لهما بين الفينة والفينة.

إنهن سعيدات لأختهما التي لم تنتبه حتى إلى الصور!

ثمّ، العيون تراقب من بعيد. دمعت هذه العيون لفرحة تلك العائلة المنكوبة. فرحة بسيطة جمعت محبّة كلّ العائلة بزغرودة وموال وأغنية، ضيافة فقيرة، بعض من فاكهة وقطع معدودة من الحلوى والسكاكر. وقد لحقهما سكون تراتيل القبول!

فتاة تنظر بأمل الرجوع إلى بيتها، إلى مدينتها، ولكن بطريقة أخرى لتكن أمّاً، وتكوّن بيتاً أسروياً كالذي فقدته وعائلتها.

أخواتها المنتظرات مثلها، غمرت قلوبهن السعادة. والأمّ رافعة يديها تتوسّل بتمام الخير والتوفيق.

تُسدل الستارة آخر الليل، ويمرّ الزمن، ولم تعد تتّضح للعيون رؤية ما في داخل الغرفة.

تسارعت الخطوات. هو صوت بدا مضطرباً عالياً انتشر صداه إلى شرفة العيون. ولكن هذه المرة، الآذان تسمع، فما زالت الستارة منسدلة.

كان صوتاً لصدى كلمات تتوسّل، كلمات تنطقها الفتاة مع عريسها ترجوه: «لا تتركنا، لا سند لنا، أنت رجل الغرفة!

وما نفع حبّك لو تركتني؟

أنت تذهب، أخشى عليك من الضياع، أخشى أن أفقدك كما فقدنا أبي وأخي وبيتنا!

نعم، الوطن يلزمه الكثير من الأشدّاء ولا أشك في نخوتك ورجولتك، إنما أنت سندنا، أنت رجل الغرفة! وأنا أبكي».

كان حكم القدر أن يكون الشاب مع صفوف حماة الوطن، ومن الواضح أنه متحمّس لتلك الدعوة.

فهمت الآذان من سياق حديث الفتاة الذي أنهته بكلمات تحزّ القلب: «أأنت متأكد أنك ستُرجع مدينتنا وتُرجع بيتنا وذكرياتنا؟».

ولم تسمع الآذان بعدها الا كلمات متقطعة مع جهيش بكاء، إنها تسلّم أمرها للقدر!

بقيت الآذان تنصت وتسمع كلّ يوم، هو بخير، تطمئن عليه يوماً، تردّ عليه «السلام والمجد لروحه».

ويوما تقول: «شفاهم الله ».

ويوماً: «مبارك تحريركم».

ويوماً تقول بتضرّع: «يا رب ترجع بسلامة وأمانة».

وإلى أن كُشفت الستارة عن النافذة، وحدّقت العيون وتنبّهت الآذان، فكان سواداً داخل الغرفة يحضن بعضه بدمعات وابتسامات وصرخات وابتهالات تنادي: «يا ربّ»، هي تنتظر!

وبقيت تنتظر، وما زالت تنتظر، حتى لو كان جثة، مثلما تنتظر رجوع بيتها الكبير حتى لو كان أثراً.

د. سحر أحمد علي الحارة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى