أيقونة القدس النفيسة
جاك يوسف خزمو
رجل دين مؤمن إيماناً طاهراً وصادقاً، إنسان بكلّ معاني هذه الكلمات، مناضل من أجل رفع شأن رعيته وأبناء شعبه، عاش مع وبين أبناء هذا الوطن، ناضل ضدّ الاحتلال، وخَبِرَ آلام ومعاناة الأسرى في السجون «الإسرائيلية»، عُذِّب لكنه كان شامخاً مرفوع الرأس لا يلين ولا يستكين ولا يتنازل عن طبيعته الفريدة، ولا عن أخلاقه الحميدة، ولا عن مبادئه المتينة…
كان خادماً مخلصاً لكلّ المؤمنين، لا يفرّق بين الأشخاص بالدين، بل كان يعتبر الجميع إخوة في الإيمان بالله… هذا هو المطران هيلاريون كبوجي، مطران القدس في المنفى، الذي عرفته يوم جاء إلى القدس نائباً بطريركياً لكنيسة الروم الكاثوليك في أواسط الستينات من القرن المنصرم خلفاً للمطران الفلسطيني المتنحي أبو سعدى.
عندما احتلت «إسرائيل» القدس في 7 حزيران 1967 بدخولها إلى البلدة القديمة، تألم المطران كبوجي كثيراً، وما أن رُفع منع التجول الذي فرضه جيش الاحتلال «الإسرائيلي» حتى سارع مع المفتي الشيخ حلمي المحتسب بدفن جثامين المقاومين من أبناء الجيش الأردني حفاظاً على طهارتها، وتكريماً لنضالهم، وكانت الصلاة فريدة مشتركة إسلامية مسيحية على هذه الجثامين.
عندما اعتُقل عام 1974، حاول «الإسرائيليون» قدر إمكانهم تعذيبه والإساءة إليه لأنه وقف إلى جانب المقاومة، وكانت سلطات الاحتلال قاسية في تعاملها معه لأنه كان مقاوماً، ومواقفه مشاكسة للاحتلال، جريئاً في قول كلّ ما يريد، غير آبه بالإجراءات القمعية العقابية على مواقفه الوطنية.
هذا المطران عمل على رفع شأن الكنيسة إذ بنى فندقاً إلى جانب البطريركية في باب الخليل، كي يؤمن لها موارد ثابتة، وفكر في العديد من المشاريع لكنّ الاحتلال لم يمنحه الفرصة لتحقيق مخططاته وآماله وطموحاته.
عند اعتقاله، تهرب كثيرون من المسؤولية، ولم يقفوا إلى جانبه بسبب الخوف على مناصبهم. أما هو فقد ضحى بمنصبه، وضحى بكلّ ما لديه من امتيازات كرئيس كنيسة مقابل خدمة هذا الشعب عملاً بتعاليم وأقوال السيد المسيح: «من أراد أن يكون الأول فيكم، فليكن لكم خادماً».
بعد إبعاده ونفيه تواصلتُ مع نيافته عبر الهاتف، وقد كان من محبي مجلة البيادر التي كانت تُرسل له بانتظام، وكان يراسلنا باستمرار، حتى أنه في فترة من الزمن لم تصله «البيادر»، فاتصل واستفسر عن الأمر، وقد كان هناك خطأ في بريد إيطاليا الذي كان يعيد نسخ المجلة إلينا…
لم يكن المطران كبوجي في أية لحظة غائباً عن القدس إلا جسدياً، أما روحياً فقد كان باستمرار يتابع كلّ صغيرة وكبيرة فيها ويتألم لتهويدها ولما يتعرض له سكانها من محاولات ترحيلهم عن مدينتهم، وهذا ما كان يقلق ويزعج ويغضب قادة الاحتلال «الإسرائيلي».
وأذكر جيداً أنه كان من بين القادة الذين دعوا إلى الإضراب ضد الاحتلال في الذكرى الأولى لحرب حزيران ولاحتلال القدس، ووقف إلى جانب التجار متحدياً الجيش «الإسرائيلي» الذي كان يقفل باللحام أبواب المحلات التجارية المشاركة في الإضراب.
المطران كبوجي هو أيقونة خالدة من أيقونات القدس النفيسة… فهو عمل بحسب تعاليم السيد المسيح له المجد، وطبّقها على أرض الواقع من خلال تواضعه واتضاعه، وأعماله الكبيرة، وآثاره الخالدة، وهذا التواضع رفعه عالياً ليس إلى مناصب عليا، بل إلى السماء ليكون دائماً وأبداً في أورشليم السماوية..
مهما قيل وكُتب عن هذا المطران البطل، فإننا لا نستطيع الإيفاء بما يستحقه.. وكلّ الشكر للذين قاموا بواجبهم نحوه، وخاصة قناة «الميادين»، ولا بد من الإشارة إلى أنّ هناك شبيبة تحمل اسمه، متواجدة في المدن الفلسطينية والتي كانت تعمل معه، والتي تقدر عطاءه المميز، وهي التي ستبقى محافظة على إرث هذا المطران الجليل والعظيم…
رئيس تحرير مجلة «البيادر» ـ القدس المحتلة