موقف تركيا المضطرب
حميدي العبدالله
يلاحظ بقوة أنّ مواقف تركيا الرسمية هي مواقف مضطربة وغير مستقرة إزاء سلسلة من القضايا. مثلاً إزاء سورية يمكن أن تجد لمسؤولين كبار أتراك، مثل الرئيس التركي ورئيس حكومته ووزير خارجيته، تصريحات صباحاً تحمل مضموناً مغايراً لتصريحات يمكن أن يدلي بها واحد من هؤلاء المسؤولين في المساء. إزاء العراق في لحظة يهدّد الرئيس التركي وأركان حكومته العراق، وفي لحظة أخرى يسعون لاسترضاء الحكومة العراقية، كما جرى عند زيارة رئيس وزراء تركيا الأخيرة إلى بغداد.
اضطراب مواقف المسؤولين الأتراك أبعد ما يكون عن طبيعتهم الشخصية، الطبيعة الشخصية وانتماءاتهم الإيديولوجية، قد تفسّر اعتمادهم هذا النهج أو ذاك، ولكن لا تفسّر تغيّر مواقفهم خلال الـ24 ساعة أكثر من مرة. لا بدّ أن تكون هناك أسباب أخرى تفسّر اضطراب هذه المواقف، ومن أبرز هذه الأسباب سببان:
الأول، أنّ مصالح تركيا موزعة الآن على معسكرين يخوضان مواجهة شاملة بينهما. المعسكر الأول، يضمّ الحكومات الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، ومعروف أنّ تركيا جزء من حلف الناتو، واقتصادها اندمج منذ الحرب العالمية الثانية اندماجاً كاملاً بالاقتصاد الغربي، وبديهي أنّ عمق الروابط الاقتصادية بين تركيا والغرب يجعلها في وضع يصعب عليها اعتماد سياسة تتعارض مع مصالح الغرب. ولكن في المقابل نمت لتركيا ما بعد انهيار الاتحاد السوفياتي مصالح اقتصادية قوية مع روسيا، سواء على مستوى التبادل التجاري، أو الاستثمارات، أو مستوى خطوط نقل الطاقة، كما تكوّنت مصالح هامة من الطبيعة ذاتها بين تركيا وإيران ولا سيما في مرحلة فرض العقوبات الاقتصادية على إيران من قبل الحكومات الغربية، ومعروف أنّ ثمة صراعاً يدور بين معسكر الولايات المتحدة وبين تحالف موسكو وطهران على قضايا دولية وإقليمية عديدة، مثل أوكرانيا وسورية والعراق.
إنّ توزع مصالح تركيا على هذين المعسكرين المتصارعين يجعل قدرتها على اتخاذ مواقف واضحة ومنسجمة أمراً في غاية الصعوبة وربما الاستحالة، لأنّ انسجام سياستها مع أيّ معسكر يفقدها أيّ فرصة للحفاظ على مصالحها مع المعسكر النقيض. وهنا يكمن السبب الأول لاضطراب مواقف المسؤولين الأتراك.
السبب الثاني، أنّ المسؤولين الأتراك وضعوا أهدافاً طموحة لسياستهم، سواء في سورية أو العراق أو مصر، وتبيّن لاحقاً أنّ هذه الطموحات غير واقعية، فأصبح قادة تركيا في مأزق، فإنْ تراجعوا فإنّ ذلك يلحق بهم خسائر كبيرة، وإنْ استمروا فإنّ الاستمرار لم يعد يمثل سياسة واقعية. وهنا يكمن السبب الثاني لاضطراب موقفهم.