التشكيلية النمسوية بريجيت ماير تُلقم الطبيعة أصابعها لِتُنشي هَوَس القماش!

النمسا ـ طلال مرتضى

يحار القارئ العارف حينما يقترب من أيّ عمل فنّي بغاية القراءة، التي تذهب إلى تفكيك بنيته الكلّية، للوقوف على شيفرات مضمراته وأكوادها، وتحسّس الدوالّ عن كثب وهو ما يُفضي بالنهاية إلى الإمساك بمفاتيح بيوت سرّه.

وبذلك، نصل إلى استنتاجات بديهية متتالية عدّة في سياقات القراءة: كلّها تفضي نحو مناهل الأسئلة القرائية الحقّة، والتي تتمثل أوّلاً بكيفية القبض على هذا المُضمر المخبوء طيّ سهوب اللونِ أو دَوْح حالة تشكيلية مرمّزة، متمنّعة، مثل فتاة بكر، فتبادر إلى إزالة الغبش عن جسدها البضّ داخل إطارها المتفلّت. لا لشيء، إلا لأنها صكّ أيقونيّ مترع بالدلالات والمعاني.

وبالمقاربة كنصّ صامت تتحكّم به نسقية غير لغوية، بحامل إبداعيّ تعبيريّ يتكوّن من عناصر تتفكّك تحت ما نُطلق عليه الدالّ الوصفية، بوصفها حشداً تعبيريّاً مرئيّاً، ومزيجاً كثيفاً من الدلالات الصوَرية. كما نطالع الآن في ما عالجته التشكيلية النمسوية بريجيت ماير عبر تشكيلات تحاكي الطبيعة من منطلق فِطريّ عفويّ، بعيداً عن السفسطائية المترفة بالخواء والتنميق، وهو ما يُفضي بالنهاية إلى تلمس صدق الدوالّ ـ في ما يطلق عليه «السيميوطيقيا» كَمدخل علميّ قرائيّ ـ أي مجموعة العلامات والرموز والأصوات التي تفرزها الطبيعة، بعيداً عن تدخل الإنسان ـ عبر الإمساك بخيوط يتشكّل منها نسيح اللوحات، أي الخيوط البنائية التي توضح وتجلي عما يخبئه العمل.

وهذا ما قادني إلى التوقف طويلاً عند خصوصية ما تركته ماير داخل الأطُر، ومراقبة التشكيل الروحي لمنجزها من خلال السؤال الذي راودني ولا ينفك عن دغدغتي، وهو شعوري بأنّ لوحاتها كلّها تتّسم بنَفَس أنثويّ بحت.

اعتقدت للوهلة الأولى، أنّ ذلك يعود إلى انتقاءها نوعية لون خاصّ، تربطه والأنثى حالة حميمية ويتقاطع معها بالحواس الرائية، وهو ما أنفيه قطعياً، حين استطعت فكّ أول أكواد اللوحة التي تجترعها كمنظر طبيعي. وهو ما يقال بوجه عام، ربما يعود إلى طبيعة الجغرافيا أو المكان الذي تسكنه وهو ما يعكس ذلك في جلّ أعمالها، كون بلدتها ـ أي الفنانة ـ تُعدّ من أجمل بقاع الأرض، أي الطبيعة الأنثى التي تشكّلها باليوميّ، الخضرة، الماء، السكون… إلخ. تلك العوامل والانطباعات كلّها التي تعدّ من أهمّ الأثار التي يتركها المبدع مثل خطابات محسوسة.

حيث لا أنفي هذا كون ماير تعالج حراك الطبيعة ذات النَّفَس الأنثوي، مثل المناظر الطبيعية والتي أطلق عنها جورج سانتيانا في كتابه «الإحساس بالجمال» بقوله: إنّ المنظر الطبيعي غير محدود، ففيه دائماً ما يكفي من التنوّع لإعطاء العين حرّية كبرى في انتقاء عناصره وتأكيدها وتنسيقها في مجموعات معينة.

لكن ما أودّ قوله هنا إنّ العلاقة بين ماير واشتغالاتها، تفوق كلّ ما تقدّمت به أو في ما قاله سانتيانا، بما معناه مماهاة أناها في العمل من خلال طريقة معالجة هذه الأعمال وإشباع رغباتها كمقاربة مع البشر، وهي أن تلقّمها حليب روحها كأمّ رؤوم أو تدغدغها بالمداعبة كعاشق ومعشوقة لتنشيها حدّ افتعال غيبوبتها، عندما وجدتها تشبع القماش المتعطش النهم بالألوان بعيداً عن استعمال فرشاة الرسم المعتادة أو الأدوات الأخرى، وذلك عبر أصابعها، حيث تغمسها بالسائل الزيتيّ الكثيف ثمّ تغلغله جوانية مسام القماش، واللافت في الأمر أنّ ماير تستعمل في ذلك أربعة أصابع من كفّها، السبابة والوسطى والخنصر والبنصر، وهذا طبيعي جداً عند الاستغناء عن أدوات الرسم، إلى أن يتخصّص كلّ أصبع بلون ما، ما يجعل المراقب في حالة من الاندهاش كيف تعمل تلك الأصابع من دون أن تخطئ؟

وهنا، أقارب الحالة تماماً، وأقول إنّ لأصابع ماير عيوناً ترى وتعرف وجهتها، وهي أقرب إلى عملية العزف على آلة البيانو، حين يكون العازف كفيفاً، بحيث أن أصابعه لا يمكن أن تخطئ المفاتيح، فهي تنقل انفعالاتها بشكلٍ عفويّ وفطريّ، لا يخلو من رشاقة ذات زخم أنثويّ، معادله على القماش، هالات وبؤر جمالية إدهاشية متفلّتة، تحيل المسطّح القماشيّ بتدرّجاته اللونية المتباينة إلى انفعال بديع يوحي باتّساع فضاءآت الروح.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى