العراق وحوار ما بعد الانتصار
ناصر قنديل
– في خطوة استباقية ذكية يدعو معهد الحوار العراقي الذي يرأسه سماحة الشيخ همام حمودي عضو هيئة رئاسة مجلس النواب بالتعاون مع جامعة بغداد ومجلس النواب العراقي، وبمشاركة لافتة لكل من رئيس الجمهورية ورئيس المجلس النيابي ورئيس الحكومة ورؤساء وممثلي المكوّنات السياسية الرئيسية، لعقد مؤتمر تحت عنوان «العراق وحوار ما بعد الانتصار»، بالتزامن مع بحث مستديم في أروقة السياسة العراقية حول بنود تسوية تطال قضايا كان يُنظر إليها بالريبة والخشية من المفاتحة والنقاش بين العراقيين لعقد مضى. والعراق قلعة عربية مشرقية بحجم سكانها ومساحتها وثرواتها وعقولها ومكانتها في كل من نابضَيْ البشرية اللذين لا يتوقفان عن الفعل والحضور، التاريخ والجغرافيا.
– يدخل العراق العام 2018 وقد تخفّف من ثلاثة أعباء متلاحقة، نظام حكم انقسم حوله العراقيون حتى الثمالة، فضاق ثوبه عليهم حتى تشقق وسقط، لكن بعضهم شعر بالوجود في العراء بعده، وبعضهم شعر في الأيام الأولى للاحتلال الأميركي ببعض الدفء بالقياس لصقيع النظام السابق، ورغم عدم دوام الانقسام حول الاحتلال، فقد أورث الاحتلال انقساماً حول النظام الجديد، لا يقل عن الانقسام في ظل النظام السابق، ولو كانت فرص التعبير أوفر وأطر التغيير أكثر، ومع تخفّف العراق والعراقيين نسبياً من عبء الاحتلال، فاجأهم عبء أثقل أعاد بعض الاحتلال وبعض النظام السابق وبعض الانقسامات حولهما، مع عبء داعش، لكنّ الأهم أن النسبة الأغلب من العراقيين بصورة عابرة للعرب والأكراد والطوائف تماسكت في خوض حرب المواجهة والخلاص والبحث عن حوار يجدّد العقد الاجتماعي بين العراقيين على قاعدة اليقين بأن قوة العراق الأولى تأتي من درجة تماسُك داخله لا بدرجة تمسُّك بعض داخله ببعض خارجه بوجه بعض آخر من الداخل متمسّك ببعض آخر من الخارج.
– الحوار العراقي هذه المرة امتحان خبرة قبل أن يكون امتحان وطنية لا تنقص أحداً من العراقيين، ولو تفاوتوا في الاجتهاد في توصيف مفاتيحها واختلفوا في تحديد محرّماتها. والخبرة وحدها هي التي تعصمهم عن تحويل الاجتهادات المختلفة إلى انقسام جديد، يحملون سلاسله الثقيلة تجرجرها أقدامهم ببطء يحول دون انطلاق مسيرتهم. والخبرة هنا هي في القدرة على استخلاص العبرة، وأولها أن عراقاً موحداً يعصف فيه الخلاف أفضل لكل مكونات العراق من انفصال يؤسس لحكم الصوت الواحد في أكثر من عراق. وثانيها أن التنازلات التي تهدئ الهواجس وتطفئ المخاوف لدى الشركاء هي استثمار في الغد، بينما تسجيل نقاط الربح على الشريك هو انتقام للماضي. وثالثها أن الأقوى هو المطالَب بأن يعطيَ ويتنازل، ومَن يتنازل عن قوة يقود، ومن يتمسك بالقوة يحكم، وأمام العراقيين المتنافسين على الغد وأدوارهم فيه أن يختاروا بين أن يترشّحوا لقيادة العراق أم لحكمه، متذكّرين دائماً أنه مهما تيسرت لأحدهم فرصة الحكم، فلن تتيسّر، كما كانت للنظام السابق وللاحتلال، وما دامت.
– يدخل العراق زمن نصره، والعالم والمنطقة يتغيّران، وأهمّ ما يتغيّر هو أنّ اللاعبين الكبار، لم يعودوا كما كانوا، وأن الأفكار التي توسّع انتشارها وطغت خلال ربع قرن مضى منذ سقوط جدار برلين وسيادة فلسفة نهاية التاريخ والعولمة الأحادية المتوحشة، التي كان احتلال العراق أحد مفرداتها، تتراجع مخلية المكان لعودة كل ما هو وطني. وهذه هي أميركا كدولة رمز للحقبة التي مضت تستعدّ للحقبة المقبلة بوطنيتها مهما بدت فجة ومبالغاً بها حدّ العنصرية. وفي زمن التمسك بالهويات الخاصة والوطنيات تمتلك السيادة والشرعية، كمفردتين قاربتا حد الزوال والسقوط في ربع القرن الماضي، بريقاً وجاذبية وفاعلية لم تمتلك مثلها في عصرها الذهبي، وبقوة الشرعية والسيادة سيكتشف العراقيون كثيراً نقاط قوة لم يقيموا لها حساباً مشابهاً من قبل، بمثل ما تظهر الجغرافيا والتاريخ عناصر حاضرة في صناعة الحاضر ورسم نتائج الحروب وخيارات السلم. وبالتجرد عن العصبيات والعواطف وحرارة انفعالات الانحيازات التي تمليها اصطفافات موروثة من زمن الانقسامات، واستبدال كل ذلك بالتمعن البارد في التاريخ والجغرافيا سيتمكن العراقيون من رسم خارطة طريقهم للمستقبل.
– أهمّ الخلاصات أنّ العراق الموحد قوة للعراقيين وأولهم مَن يتخيّلون الانفصال طريق استقلال. والاستقلال الضعيف تبعية. وأن الوحدة كي تصير قوة فهي جمع لا قهر ولا طرح ولا قسمة ولا ضرب بين مختلفين، بل اعتراف بفرح الخصوصيات لا دعوة لإلغائها. وأن العراق وسوريا قاعدة صناعة السياسة والحضارة والاقتصاد لمنطقتهم، مشرقية وعربية وإسلامية، بتفرقهما يسقط المشرق ويدخل العرب والمسملون زمن التناحر واللاسياسة، يصيغان معاً دورهما جسر حوار بين سائر مكونات الجوار العربي والإسلامي، وقواعد التحالفات لقواه، ورد الاعتبار لمفهوم للأمن القومي صاغه الكردي صلاح الدين الأيوبي للعرب والمسلمين بوصلته القدس.