غزة و«الحرب» على «داعش»!
نصّار ابراهيم
هل تذكرون اتفاق «وقف إطلاق النار الدائم وغير المحدود زمنياً» الذي تم التوصل إليه في غزة بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي يوم الثلاثاء الموافق 26 آب 2014، بعد حرب عدوانية وحشية دامت خمسين يوماً من المعارك التي أسفرت عن سقوط أكثر من 2100 فلسطيني معظمهم من المدنيين و«64 جندياً إسرائيلياً و5 مدنيين إسرائيليين» وفقا للرواية الإسرائيلية.
وهل تذكرون أيضا أهم مفاصل ذلك الاتفاق؟
ـ الإفراج عن سجناء فلسطينيين.
ـ بناء ميناء بحري في غزة يسمح بنقل البضائع والبشر إلى القطاع ومنه، وإعادة بناء مطار ياسر عرفات عبر محادثات أخرى غير مباشرة تبدأ في غضون شهر.
ـ توافق «إسرائيل» على فتح المزيد من معابرها الحدودية مع غزة للسماح بتدفق أيسر للبضائع بما في ذلك المعونة الإنسانية ومعدات إعادة الإعمار إلى القطاع،.
ـ توافق مصر ضمن إطار اتفاق ثنائي منفصل على فتح معبر رفح على حدودها مع غزة.
ـ تقلص «إسرائيل» المنطقة الأمنية العازلة داخل حدود قطاع غزة من 300 متر إلى 100 متر في حال صمدت الهدنة، مما يسمح للفلسطينيين بالوصول إلى مزيد من الأراضي الزراعية قرب الحدود.
ـ أن تقوم «إسرائيل» بتوسيع نطاق الصيد البحري قبالة ساحل غزة إلى ستة أميال بدلاً من ثلاثة أميال مع احتمال توسيعه تدريجياً إذا صمدت الهدنة. والعودة في نهاية الأمر إلى النطاق الدولي الكامل وهو 12 ميلاً.
أين أصبح يا ترى هذا الاتفاق الذي كان ثمنه آلاف الشهداء وأكثر من عشرة آلاف جريح وتدمير غزة؟
هذا السؤال… ليس عبثياً بل هو سؤال كاشف للضعف والعجز والتآمر… كيف ذلك؟
كسؤال كاشف لضعف وعجز القوى السياسية الفلسطينية، وخاصة السلطة الفلسطينية وحركة حماس، اللتان لم ترتقيا سياسياً إلى مستوى تضحيات وصمود الشعب الفلسطيني في غزة… فما أن انقشع غبار المعارك والمقاومة حتى عاد الطرفان إلى الرقص على التناقضات الداخلية… مما أراح نتنياهو وحكومته من متابعة تنفيذ الاتفاق.
أما التآمر فيتجلى عبر تبديد ملحمة غزة وأسطورتها في المقاومة من خلال جذب الأنظار والاهتمام إلى السياقات الإقليمية… حيث تنصبّ الجهود الآن على بناء التحالف المزعوم لمحاربة «داعش» بقيادة الولايات المتحدة ومشاركة أربعين دولة… وهكذا لم تعد الأولوية هي الاحتلال «الإسرائيلي» وقضية فلسطين وشعبها بل «الإرهاب الداعشي»… وبالتالي فإنّ «إسرائيل» بهذا المعنى هي في قلب هذا التحالف وإنْ لم تكن في الطليعة، فأصدقاؤها من عرب وغرب يقومون بالواجب وأكثر… هكذا ضاعت دماء غزة وتضحياتها تحت سنابك خيل الحملة على «داعش»… نعم «داعش» ذاتها التي ولدت من حاضنة الفكر الوهابي السعودي، وتتلقى الدعم والتدريب والتسليح من تركيا وقطر والسعودية، وتحت نظر ومجهر جميع أجهزة الاستخبارات العالمية، وذلك بهدف إشعال المنطقة وإشغالها بحرب طائفية لا تبقي ولا تذر، وتمهيد التربة لتقسيم البلدان العربية المقسّمة أصلاً منذ اتفاقية سايكس ـ بيكو… وأيضا كي تستعيد الولايات المتحدة وحلفها الاستعماري المبادرة في الشرق الأوسط بعد أن اهتزت وتضعضعت بسبب الفشل في أفغانستان وفي العراق، وبسبب فشل «إسرائيل» في ضرب وتصفية المقاومة في لبنان وفي فلسطين، وأيضاً بسبب الفشل في إسقاط الدولة الوطنية القومية السورية… بالإضافة إلى نجاحات إيران في فرض نفسها قوة إقليمية كبرى، إلى جانب الثبات الروسي في أوكرانيا مسنوداً بقوة التنين الصيني ودول بريكس وشنغهاي…
بالتأكيد يتذكر البعض أنّ الحرب الوحشية على غزة لم تكن مجرّد حرب موضعية، بل كانت جزءاً عضوياً من استراتيجية تحطيم محور المقاومة بعد الفشل في ضرب المقاومة في لبنان وإسقاط الدولة الوطنية القومية في سورية… حينها تمّ تكليف «إسرائيل» بتحييد وكسر الحلقة الفلسطينية لتحييد القضية الفلسطينية وتصفيتها سياسياً عبر اتفاق نهائي مذلّ… غير انّ صمود الشعب الفلسطيني في غزة والمقاومة الباسلة فيها… أفشل هذا الهدف… لذلك تجري الآن عملية التفاف سياسي خطرة وهي كسر المقاومة وتبديد إنجازاتها من خلال ترحيل الجهد والتركيز السياسي بعيداً عن أسطورة غزة وتركها تغوص في وحول الدمار والفقر والنسيان… نحو الحرب الملتبسة على «داعش»، فيما القوى السياسية الفلسطينية وبضيق أفقها وفقر خيالها السياسي تساعد في هذه المهمة من خلال الثرثرة والمهاترات السياسية وتعظيم التناقضات الداخلية.
أمام كلّ ذلك يبدو أنّ ليس من بديل سوى: أولاً حركة شعبية فلسطينية فاعلة تعيد إيقاظ القوى السياسية الفلسطينية ووضع حد لعبثها السياسي، وثانياً أن تبادر القوى السياسية الفلسطينية التي لم تكن طرفاً في التناقضات الداخلية الفلسطينية وخاصة حركة الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وغيرهما من القوى لكي تفرض صوتها وحضورها في الميدان السياسي والشعبي الفلسطيني لتعيد التوازن لإيقاع الفعل السياسي الفلسطيني بما يتناغم مع صمود وتضحيات وحقوق الشعب الفلسطيني.