«في الطريق»… غواية السرد تُسقط القارئ من حسابها!
النمسا ـ طلال مرتضى
مرّة أخرى وعبر نهج الحكاية التي تمتح وجودها توسّلاً لتحقيق أناها بما يشابه مغامرة سرديّة مترعة في تدوينات السيرة الذاتية، «والتي عرفها تاريخ العالم الأدبي كما تاريخنا الأدبي مع فارق السياق والثقافة المجتمعية»، وذلك عروجاً نحو استبطان تاريخ بعينه في جملة أحداث متّصلة منفصلة في آن.
مروراً بما تركه المغاربي مصطفى الحسناوي في مرويّته الجديدة «في الطريق» التي صدرت عن «مؤسّسة الرحاب الحديثة للطباعة والنشر والتوزيع» 2016 بيروت.
تلك الهذيانات التي ما دأبت تنفتح تارة وتنغلق أخرى على عوالم متشعبة متفلتة حدّ الإدهاش والتجلّي والانكشاف. فهي لا تتوانى بالمطلق المكتوب عن الولوج إلى ما هو غير مألوف، وهو ما يستدعي استجداء المتخيّل وشحنه ليبقى تأويله ضمن خطّ سياقاتنا الثقافية على الأقل للمقاربة:
«شاهدتهم وهم ينسحبون جارّين أقدامهم الجامدة، وهم يلبسون نعالاً جلدية قديمة ومهترئة. أعضاء الطفلات المقطّعة تركض وتتقافز كأنها ما زالت بالفعل حيّة. والغريب أنهم لم يكونوا شبيهين بموتى… أو هكذا اعتقدت».
الذهاب عبر نسق الكاتب، هالة أحادية القطب وغالباً ما يكون مردودها سلبيّاً من دون وعي الكاتب ذاته عندما يولم كلّ ممكناته الثقافية لتجييرها لصالح معطاه، وهو ما يسبّب له عزلاً تاماً بحكم أنه الوحيد الذي يتمتع بسلطة النصّ، وهو ما يستعجل بظهور «أنا» الكاتب المتخمة، وزهوها حين تنفرد بتسيبر عربة النصّ حسبما ترتأي.
كيف لا وهو الممسك تماماً بزمام اللغة، وهو مهندس «الكروكي» الأول والذي يعرف مَواطن قوّته ونقاط ضعفه، وأخيراً هو المتحكم الوحيد والمُشَّرع له بموجب العرف الكتابي المتداول، والذي يتيح له من دون مراجعة، تذييل نصّه للتأويل بكلمة النهاية أو الخاتمة.
وتلك أولى خسارات الكاتب حين لهث خلف «أناه» ليترك ظّهره مكشوفاً، حينما أسقط القارئ من حساباته، كما فعل «الحسناوي» الذي لم يقترب منّي ـ كَقارئ ـ على مدار رحلةٍ طويلة، من دون أن يلتفت أو ينتبه إلى أن القارئ هو شريك أساس في القراءة أو الكتابة، وعلى حدّ قول العوام، هو الحصان الذي نُسرج عليه كلّ علائق ما ننهل من آبار الحكايات ومَنابع اللغة.
لكن السؤال الفطريّ يأتي دونما تحضير: ألا يستحقّ هذا أن نومئ له بجزرة الحكاية، وهي آلية يعتمدها الكاتب بالافتراض لجعل القارئ شريكاً من خلال رشّ حبّات «القنبز» التي تُقرّبه من قفص النصّ الغاوي؟
«في الطريق» ـ مَرويّة «الحسناوي» ـ هي تدوين بحامل اللغة، اقتربت في كثير من المفازات نحو الشعرية:
«تمنّيت لو أنّني نمت في رائحة البحر».
«كما لو أنّني أروم غزو الليل».
«فتغرق الزرقاء المهترئة في/
حمام الضوء الذي يغشى بصري».
على رغم أنّ بعض المَشاهد تستحضر حالات من الغثيان المفتعل، إلا أنّ الكاتب بدا متمكّناً تماماً في هذا السياق. حيث جرّ اللغة كفرس رهان، نحو أماكن وحده مَن يستطيع جعلها قابلة للاستقراء بمفاتيح وأمثولات قلَّما نجدها عند كاتب آخر، وهو ما جعله يمشي وحيداً خارج السرب، من دون أن يترك لقارئه، دالّاً واحداً عمّا هو ذاهب إليه، أو نقطة بين مشهدين للقبض على نواصي الحكاية، التي بدأت كقصة مطروقة، حكاية شابّ سرقته المدن الكبيرة، وفي غمرة الشوق قرّر العودة إلى الجنوب حيث بلدته القصيّة في جنوبيتها، لتأتي كُلّ مَشاهد المرويّة عبر الطريق متتابعة عبر تذكارات سالفة رواها خلفاً، أو كَراوٍ ضمنيّ وشخصية أحادية في المروية نهل من مَعين المنولوج.
بما أنّ الحكاية هي عملية خطّ عودة إلى الموطن الأول الذي لم يستطع الانسلاخ منه، ما كان على الراوي ـ المتكّمن لغوياً والمثقّف الذي جيّر كثيراً من أمثولات ممّن سبقوه في الكتابة ـ أن يرفد في السياق السرديّ كلمات كثيرة وأسماء جنوبية مغاربية لا يفهمها إلا ابن البلد ذاته، بمعنى أنه أطّرَ أو جعل خصوصية للعمل، الذي وبصراحة يحتاج قارئ بارد الأعصاب كي يتماشى مع الكاتب، في عصر صار القارئ لجوجاً. همّه عبور الحبكات سريعاً للقبض على القفلة.