أول غيث ترامب أستانة

د. رائد المصري

أتحفنا البعض من مثقفي الليبرالية، من نخب المال والنفط والبنوك والغاز في تباكيهم على القيم الديمقراطية التي تتحلى بها الإدارات الأميركية، وما بين الرئيس السابق باراك أوباما وشريكته الخاسرة في الانتخابات هيلاري كلينتون، يكاد القارئ أو السامع لهؤلاء المتباكين يعتقد أنّ القيامة ستقوم يوم تنصيب دونالد ترامب رئيساً للأميركيين، متجاهلين أنّ كلّ الإدارات الأميركية ورأسمالها المعولم الناهب ثروات الشعوب يشكلون أكبر قوة استعمارية في التاريخ الحديث، وأنّ ما يجري اليوم من إعادة اصطفافات سياسية وتقليب للوجوه السياسية داخل أميركا وخارجها، ما هو إلا تبديل الأدوات الوظيفية أو الأدوات التي كانت تشكل وتمثل وتلعب الأدوار الوظيفية، وفق النسق الكولونيالي أو الكومبرادوري التابع والضعيف خدمة للمشروع الاستعماري الغربي الأميركي والرجعي العربي.

لا بدّ من إعادة طرح بعض المصطلحات التي يعتبرها هؤلاء المشوّهين من النخب الليبرالية واليسارية التي تماهت وهادنت، بل وشرعنت حدّ التسهيل للمشروع الغربي بالسطو على مقدرات شعوب المنطقة العربية والإسلامية، واستساغوا بإعجاب كبير نمط هذه التبعية للإدارات السياسية الأميركية في تعاطيها معهم كأتباع، حتى أنه يخيّل لهم انعدام الحياة بعد تغيّر كلاسيكيات السياسة الأميركية التي اعتادوا رضاعتها منذ بلوغهم.

لكن الحقيقة المحزنة هي أنّ فوز ترامب وحضوره في النادي السياسي الأميركي والعالمي ليس فلتة حظ أو صدفة، بل هو نتاج حقيقي للطغيان والألم والظلم الذي عاناه الشعب الأميركي وشعوب العالم من مديونيات وبطالات وتباطؤ اقتصادي وفروقات طبقية مادية افتعلتها هذه النظم المتوحّشة بليبراليتها المقززة طيلة أربعين عاماً وباتت فاقدة بالحدّ الأدنى قدرتها على الاستمرار والعيش، وفق ما نسجه لها منظروها منذ سبعينيات القرن العشرين.

لقد دار الزمن دورته الاقتصادية وغيَّر في علاقات إنتاجه وتشابكاته الاقتصادية بما يضع النظام الرأسمالي أمام علامات استفهام كبيرة وخطيرة حول سبب ومسبّبات وجوده بعد اليوم، وهو ما يتفاصح البعض، لا بل الكثير حول التحليلات والتكهنات لسياسات دونالد ترامب في العالم.

لا يبدو الرئيس الأميركي المثير للجدل أنه آتٍ من خارج التاريخ، بل هو رجل أعمال يتقن فنّ البراغماتية ويقيس العلاقات الدولية والأميركية بالتحديد وفق ميزان الربح والخسارة، لذلك نجده ثابتاً أمام مواقف وتصريحات كالعلاقة مع روسيا البوتينية وموقفه من الحلف الأطلسي، ومن طريقة تعامله مع دول الخليج وبالتحديد السعودية، ومن الإرهاب وملفاته الشائكة.. وغيره الكثير في ما يتعلق بمنطق حركة التجارة الدولية وأسواق العملات التي تؤثر على الدولار الأميركي.

وإذا تمعّنا في هذه المواقف مما هو مطروح، فنجده محقاً في أغلب ظنونه ومواقفه: أولاً لناحية الإرهاب وملفاته وتنظيمه وترتيبه وكيفية تسييله ربحاً صافياً بيد الغرب وأميركا. وهو ما عزز انتكاسات تلو انتكاسات وخوفاً كبيراً وشكوكاً في عدم قدرة للسيطرة عليه انطلاقاً من الشرق الأوسط مروراً بأوروبا وصولاً إلى أميركا.

ثانياً: ملف التعاطي الاستراتيجي مع دول الخليج والسعودية كمحميات غربية بدأت تدفع ثمن تكاليفها باهظاً، خاصة أنّ تبدّل أسواق العمل وعلاقات إنتاجه جاءت مثيرة بعد اكتشاف النفط الصخري والتخلي تدريجاً عن المهمات في الخليج والمشاريع الاستراتيجية التي كلفتها أكثر من قدرة أميركا على الاستمرار في ظلّ المديونية التي فاقت 20 ألف مليار دولار…

ثالثاً: الموقف من القارة العجوز أوروبا ، كما يصفها ترامب، وفقدانها هيبتها بعد أن خدمت بصدق، وكانت ملحقة بالسياسات الأميركية، منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية والتي اعتبرها تاريخياً المشروع الاستعماري الأميركي كعامل صدّ وعزل عبر المحيط الأطلسي بوجه التمدّد السوفياتي ومن ثم الروسي لاحقاً، وفي ظلّ هذه الإفلاسات المالية التي تطال كلّ دولها بضرورة ووجوب إعادة النظر في النظم والهيكلية الحاكمة لأوروبا بدءاً من الاتحاد والوحدة الأوروبية وصولاً للعملة والاقتصاد والذي بدأ معه يتعزز الشعور القومي وعدوى الشعبوية التي أتى بها ترامب وهي أمام ثلاثة استحقاقات انتخابية في ثلاث دول هي إلمانيا وفرنسا وهولندا.

هذه العوامل الثلاثة مضافاً إليها موقف ترامب من الحلف الأطلسي، ووصفه له بأنه عفا عليه الزمن وأصبح من الماضي نظراً لتكاليفه الباهظة التي تدفع أميركا حوالي 75 من ميزانيته، كل ذلك معطوفاً على حسن العلاقة في الأداء السياسي مع روسيا والرئيس بوتين، وهو ما جعل أوروبا في حالة ارتجاجية لناحية مواقف ترامب من الأطلسي وتأييده الخروج البريطاني من الاتحاد. وهو خوف تعزّز من الغرب لاقاه خوف آتٍ من الشرق نعني به روسيا البوتينية والمدى الحيوي الذي تستطيع أن تلعبه في ظل غياب الأطلسي كترسانة عسكرية تمتدّ بأسلحتها لتغطي العالم.

فأتت التجربة التركية التي تشكل القوة الثانية في الأطلسي وتفرّدها بالقرارات وبالتنسيق مع روسيا حول الأزمة السورية وتسوية حلب، وبعدها آستانة، فتعززت هذه المخاوف لدى الجميع. هي فعلاً مرحلة انتقالية في المشروع الغربي الاستعماري وتخبّط لدى الأوروبي نتيجة تعذّر وجود البديل لملء الفراغ الدولي، فكانت خطوة مفاوضات أستانة كأول الغيث لوصول دونالد ترامب مع تأكيد الحضور الأميركي الواجب في هذه المفاوضات كضيف شرف …

من هنا على الجميع معرفة الحقيقة التي تقول إن الصراع في سوريا وعليها هو المحدد الأساسي الذي يبنى عليه النظام الدولي الجديد…

أستاذ في العلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى