شانلي أورفة… «الرّها، حرّان» شقيقتا الرقّة

نجاح ابراهيم

كنّ ثلاث شقيقات جميلات، مثل نجماتٍ في السماء، يربطهن خيط عربيّ ودم عدنانيّ: «ديار ربيعة، ديار بكر، وديار مضر»، بيد أنّ زمناً مرّ بهنّ ففصلهن، اثنتان ظلّتا مع بعضهما، وأخرى نأت وما زال في الصدر حنينٌ لا يُحدّ!

ما كنت أعرف الكثير عن مدينة أورفة، أو شانلي أورفة كما يطلق عليها الأتراك بهذا الاسم، سوى أنها شقيقة الرقّة وحرّان التاريخيتين، ولقب سمعته مراراً هو:

«أثينة الآراميين»، ما دفعني لأن أزورها في شباط عام 2010، بمشاركة عدد كبير من أدباء ومفكّرين من سورية والعالم العربي، للمشاركة في ندوة بعنوان ا«لأتراك في عيون العرب»، ولافتتاح معهد اللغة العربية في جامعة حرّان.

والسبب في إطلاقهم عليها هذا اللقب أنه في أواسط القرن الرابع، وأوائل القرن الخامس، أصبحت «آدسا» ـ وهذا اسمها القديم ـ مركزاً هامّاً في الأدب السرياني، حيث اشتمل على عدد كبير من الكتب في مختلف العلوم والفلسفة المترجمة عن اليونانية، لهذا اعتبرت أثينة العالم الآرامي.

تقعُ أورفة ـ وهذا اسمها الجديد ـ على مرتفع يبعد 550 متر عن سطح البحر، وهي قريبة من الرقّة إذ تبعد عنها 150 كيلومتراً، وعن بلدة تل أبيض السورية 55 كيلومتراً، إلى الشمال الغربي منها.

يحيط بها من الغرب والجنوب جبلٌ يُعرف بتل فدر، وهي مدينة تَمورُ بالآثار، وتغوصُ برائحة القِدم والتاريخ كأختيها، إذ يعود تاريخها إلى العهد الآشوري، ولها أهميّة تجاريّة لوقوعها كسائر المدن على نهر الفرات، وعلى الطريق التجاري بين بلاد الرافدين والشام، وقد سمّيت بأسماء عدّة منها: «آدسا» التي قام سلوقس الأول اليوناني بتجديدها، و«الرّها»، و«أورهو» في السريانية، «آور» الكلدانية، و«أورهين»، و«أنطوخية» نسبة إلى أنطيوخس الرابع، و«أورفة»، وحديثاً «شانلي أورفة».

وقد وُجدت أسماء ملوك حكموها، منقوشة على نقود كانت تستعمل في القديم، ومنها أسماء نبطيّة عربية، وعرف ملوكها بِاسم الأباجرة، تعاقبوا على حكمها منذ عام 132 قبل الميلاد حتى عام 216 للميلاد، حيث بسط الإمبراطور الروماني كاركلا سلطانه عليها وأسر ملكها أبجر العاشر وهو آخر الملوك المستقلين.

أما بالنسبة إلى اسم «الرها»، فقيل إنه جاء نسبة إلى بانيها، وهو الرهاء بن البلدني بن مالك بن دعر، وقد استولى عليها الفرس عام 241 مع نصيبين وحرّان بقيادة أزدشير، إلا أنّ الإمبراطور غورديان الثالث أعادها ونصّب ملكاً عليها هو أبجر عبد كار الحادي عشر، وظلّ حاكماً عليها حتى وفاة الإمبراطور.

وكان أهل الرها يعبدون الكواكب قبل انتشار النصرانية فيها، ومن آلهتهم، الإلهان آزيزوس ومعناه بالعربي عزيز ومونيموس، ومعناه منعم، وقيل إنّ ملكها أبجر الخامس قد بعث رسالة إلى المسيح وتمت بينه وبين الحواريين الولين مراسلات حتى أضحت ابنة الكنيسة المتميّزة في الجزيرة الفراتية، لذلك أنشئت فيها كنائس عظيمة، وانتشرت الأديرة والرهبنة التي أدخلها السوري افرام سيروس، إذ كان شاعراً دينياً، وقد جعل من الكنيسة جامعة عظيمة للسوريين فغدت الرّها أهم مركز ثقافي للنساطرة، كما صارت قاعدة كبرى من قواعد المسيحية في الشرق، ومركز أبرشية تلتحق بها سبع أبرشيات، ومن أشهر أساقفتها يعقوب البرادعي.

نال الرها الخراب كأيّ مدينة تاريخية، فتارة كانت تقعُ في يد الرومان، وتارة في يد الفرس، كما تعرّضت لفيضانات من النهر المعروف بِاسم قرو كوبون، أو نهر القوط. ثم استولى عليها العرب المسلمون عام 639 للميلاد وأخذوها من يد الروم في عهد الخليفة عمر بن الخطاب، حيث تمّ فتحها وتسميتها بِاسم الرّها بدلاً من اسمها اليوناني آدسا.

وقد بنى فيها سعيد بن عامر، الذي ولّاه عليها الخليفة بعد وفاة عياض بن غنم، مسجداً سمّاه مسجد الرها، ثم غار عليها الروم من جديد، فنهبوها وخرّبوها وقتلوا شعبها، واستولى عليها السلجوقيون، ودارت بينهم وبين الفرنج معارك شتى، وكذلك الصليبيون عام 1098، وأقاموا فيها إمارة عُرفت بِاسم كونتية آدسا، ثم أخذها السلطان عماد الدين زنكي، وظلّت ملكه حتى وفاته، ثم ملكها الأيوبيون حتى عام 656 للهجرة، واجتاحها التتار وغزاها تيمورلنك عام 1395، ثم استولى عليها العثمانيون عام 1637 وسمّوها أورفة، وأصبحت إيالة يتبعها عدد من المدن السورية كدير الزور والرحبة والميادين والرقّة وحرّان، وقد أمر السلطان بأن يسكنها ثمانون ألف تركماني لأسباب سياسية، وما زالوا يعيشون فيها عيشة العشائر العربية المجاورة لهم وهم من قبيلة قيس، وقد رأيت الأزياء الشعبية التي يرتديها شعب أورفة تشبه كثيراً أزياء أهل الرقة نساء ورجالاً، وحتى إن تكلموا باللغة العربية فإنهم يتكلّمون باللهجة الرقاوية.

حين زرناها نزلنا في فندقين أحدهما فندق الرها والثاني يدعى «مانجي»، أي باللغة العربية المَغْنى، وكان على طراز الخانات القديمة، فيه قناطر وسلالم، يشبه تلك الأماكن التي في ألف ليلة وليلة، والغرف في الطابق الثاني والثالث عبارة عن متاهة لا يمكن للنزيل أن يعرف غرفته إلا إذا وضع إشارات تدلّه إليها، ومع ذلك فإنه سيضيع، كما توجد في صدر المدخل الواسع لوحة كبيرة لشهرزاد وهي تتحفُ سامعها بحكاياتها التي لا تنتهي، وأين اتجهتَ تلاحظ تراثاً ينشدُ، ورائحة القِدم تعبقُ، كما يلتصق بالفندق سوق قديم تباع فيه الصناعات التقليدية، الحليّ القديمة، والتحف اليدوية، والسجاد…

وأينما أدرتَ طرفك تجد معالم أثرية موغلة في القدم، حتى أرصفتها ذات الأحجار المربّعة ما زالت تحافظ على قدمها ورصفها الأخاذ، وكذلك أسواقها وجوامعها، وما هو لافت تلك البساتين المحيطة بها من كلّ جانب والتي تشرب من عيون تتفجر من الجبل، وأهمّها عينان قديمتان، عين الخليل وعين زليخة، ومن المدن الصغيرة التابعة لها حران وهي مدينة عريقة…

وقد كانت رحلتنا إليها رائعة، إذ أهمّ ما رأينا فيها تلك المشاهد الأثرية والدينية، قيل إنها أول مدينة بنيت على الأرض بعد الطوفان، وفي القديم كان سكانها خليطاً من البابليين والآشوريين والمقدونيين والأرمن والنصارى والعرب، وفيها تمّ التقاء ديانات وثقافات هذه الأقوام، وقد كانت الوثنية منتشرة فيها إلا أنّ الخليفة المأمون أجبرهم أن يعتنقوا الإسلام، أو أيّ ديانة أخرى يعترف بها الإسلام، وإلا سيبيدهم، ولكنهم سمّوا أنفسهم بالصابئة لأن القرآن يعترف بهم.

وحرّان فيها الكثير من الأدباء والمفكرين والباحثين قديماً، أهمهم ثابت بن قره الحراني، الذي برع في علم الطب والفلسفة، وهلال بن المحسن، والبتاني الفلكي المشهور، وقد أخذ إخوان الصفا عن مدرسة حران، كما زارها الفيلسوف الفارابي، وذكر الصابئة المسعودي في كتابه «مروج الذهب»، وزارها الشاعر العباسي بشار بن برد، وذكرها ياقوت الحموي في معجم البلدان، ولا يمكن أن يغفل دور حران في نشر الثقافة الحرانية واليونانية إذ لها فضل كبير على الفكر العربي واللغة العربية والثقافة العربية، حيث كانت حران جامعة يتخرج منها الفلاسفة والعلماء على صغرها بيد أنها كانت مركز علم وثقافة.

وهذا ما دفعنا لأن نزور جامعة حران الحديثة الكبيرة إذ وجدناها تحيط بها المياه والسدود الصغيرة، والحدائق الغناء، والمباني المنسقة للطلبة والأساتذة، ومواصلاتها ضمن حدودها متوفرة، أي أنّ هناك مواصلات تصل بين السكن ومدرج الكلّيات وبين الأقسام الأخرى.

أديبة سورية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى