الاحتفاء باللغة… المدارس النمسوية نموذجاً
النمسا طلال مرتضى
ثمة ما يبهج في هذا الطرح الذي يستدعي وقفةً طويلة تأملية وعميقة. فالتلطّي وراء الهوامش لم يعد مجدياً، في ظلّ تحوّل الوقت إلى ماكينة تطحن الأخضر واليابس من دون هوادة، بحجّة اللحاق بركب الحضارة الجديدة، وتماشياً مع صرعتها المتحوّلة. بعدما تحوّلت كرة الأرض على بعضها، إلى قرية كونية واحدة، تُدار بِكبسة زرّ.
ويُعزى هذا بالتأكيد، إلى طفرة المعلوماتية الإلكترونية، وذلك يستدعي استنفاراً كاملاً للتماشي ـ على الأقل ـ مع ما تفرزه في مجالات العلم أولاً، ثمّ الصناعة وغيرها. لكن السؤال البديهي يطفو فوق سطح المقال: هل يتأتّى هذا على حساب الموروث الذي نملكه؟ الشفوي منه والمادي، وهل علينا خسارة لغتنا مقابل حضور آنيّ متمثّل بوسائط التواصل لينطفئ بعد برهة كشمعة تذوي؟
ثمة أسئلة أخرى لستُ بصددها الآن في هذا المجال. لكن سؤالاً واحداً ظلّ يغري مفاتن الحرف حتى استقام على ضفّة السطور.
هل الدافع لهذه المقالة، الغيرة على اللغة العربية الأمّ؟ التي تتعرّض اليوم لأعتى وأسوأ انتهاكات لا تحصى، على يدِ أبنائها في كافةِ الصعد والمجالات. الآن، طيّ المقال، وعلى رغم «فشخرة» الحكومات العربية حين تُبذّر الملايين من الدولارات، لقيام مهرجانات ومؤتمرات لدعم اللغة وتكريسها إلخ… من الخزعبلات التي باتت ممجوجة، أم هي الدهشة التي أتلمس باحتفاءٍ منقطع النظير والذي يكشف عن غير قصد، رياء الشقّ الأول من سؤالي.
فمن النمسا، هذه الدولة التي تستضيفني كلاجئ، ويسعى المولجون بالأمر، بكل جهدٍ إلى دفعي لتعلّم لغتها، مع العلم أنها تعتمد اللغة الألمانية لغة رسمية للدولة.
ومن المفارقات الجميلة في هذا الأمر، أن تجد مقوّمات تدفع وتحثُ الطالب على طرح الكثير من الأسئلة مقارنةً بالمنتهج في تعليم اللغة العربية وبذلك تحصل على جوابٍ قطعيّ من دون تلكؤ، فقط عليك أن تحفظها كما هي، فذلك غير قابل للنقاش، وكأنك تتعامل مع مسألة رياضية بحتة لا تقبل الا نتيجةً واحدة. ومع كل هذا هناك سعي إلى الحفاظ على استمرارية اللغة على رغم اقتناع الجميع بخشبيتها على عكس لغتنا العربية الولّادة التي تقبل التجديد.
بالطبع، كان من الحتميّ أن أجترع هذا المقال مسلّماً بانحناءة طويلة لكلّ القائمين على دعم برامج اللغة هنا، عبر تسخير كلّ الممكنات لتبقى لغتهم حاضرة ومتداولة. ذلك حين لا يقتصر الأمر على أن تدفع الحكومة للّاجى ثمن «الكورس» والذي يتجاوز ألف يورو، كي يتعلّم ـ في وقت لزام عليه كضيف أن يجهد لتعلّم لغة البلد الذي استقبله ـ في مدارس أطلق عليها اسم «volkshochschulen» أي «مدارس الشعب الوطنية»، والتي تقوم بتأمين مدرّسين أكفاء، مهمّتهم تعليم قواعد اللغة الألمانية وكتابتها، وبالتأكيد يخضع الطالب المتعلّم أسبوعياً لمقابلات خارج «الكورس» مع مستشارين متخصصين يمكن اللجوء إليهم لحلّ معضلات كثيرة، في ما يتعلق بالحالة النفسية وكيفية تقبّل التعليم والضغوط الناتجة عنها وأيضاً غيرها من المشاكل. ثم المتابعة مع متخصّص آخر يراقب عن كثب مراحل تطوّر الطالب بغضّ النظر عن فئته العمرية، بعيداً عن لغة الامتحانات التي تعتبر مثل أحكام عرفية يتعرّض لها الطالب في بلادنا، أو كسيفٍ مسلطٍ على رقبته، حيث يرتقب موعد الفحص برعب حدّ الانهيار، على رغم أنه قد أعدّ له العدّة، فيؤدّي هذا إلى انكسار التلميذ من داخله.
وعلى هؤلاء المستشارين تقديم دراسة مفصّلة عن كلّ طالب، والذي قد يطلب منه طوعاً الذهاب إلى دورات اندماج للتعرّف أكثر إلى لغة البلد وأهله. ثم يصار الأمر إلى أبعد من ذلك حين قامت إدارة «volkshochschulen» «المدارس الشعبية»، بفتح مدارس أخرى مساعِدة، تختلف طرائقها التعليمية كلّياً عمّا تقدمه المدارس العادية، وتسمى «Sprechcafe» أي «مقهى المحادثة»، وهي مدارس معتمدة رسمياً، وتعتمد منحىً تعليمياً مغايراً للمعتاد، ترغيبياً يبدأ من خلال دعوة أربعة طلاب للجلوس إلى طاولة كما المقاهي العادية، ليأتي معلّم أو معلّمة ـ طبعاً بعد تقديم الشاي أو القهوة أو الحليب أو النسكافيه للطالب مع الكيك ـ وتبدأ الحصة من دون كتب أو دفاتر وأقلام بدءاً من التعارف، ثم فتح سياقات أخرى من الكلام، عمّا يفعله الطالب في البيت وفي الشارع… إلخ.
هي وسيلة لكسرِ حاجز الخوف عند الطالب، يتدخّل المشرف في سياقات الحديث لتصويب اللفظ كي تستقيم، وبناء الجملة بشكل سويّ، في جلسة ودّية غير متكلّفة بين المعلّم والتلميذ، لينتهي الأمر إلى رفع تقارير أسبوعية للمستشارة التعليمية في المقاطعة الدكتورة بيت غفيرير « Dr Beate Gfrerer» تتمّ من خلالها مراقبة سير الحركة التعليمية للطالب مع مراعاة فئته العمرية… إلخ.
لن أقول يلزمنا الكثير كي نصل إلى ما وصلوا، لسبب بسيط وليس خفيّاً، وهو أنهم قاموا على ما تركناه في وقت نحن الأحوج إلى الالتفاف علينا.