أيها السياسيون: دعوا شعبكم يعيش
علي بدر الدين
حرّكت الانتخابات النيابية المفترض حصولها في تشرين الثاني المقبل، مياه الأفرقاء السياسيين الراكدة بفعل عمليتي المدّ والجزر، المتحكّمة بمفاصل الحراك السياسي لبعض أمراء السياسة ورؤساء الكتل النيابية الذين هبّ فريق لإنقاذ هذا الاستحقاق الوطني من براثن التمديد للمجلس النيابي الحالي الذي قد يحظى بثقة النواب أنفسهم للمرة الثانية، بعد أن جاهر فريق آخر بالموافقة المشروطة تشريعياً ورئاسياً أو الذهاب إلى الفراغ ليكتمل «النقِلْ بالزعرور». وهذا السجال العقيم الذي لا يحتمل الاجتهاد أو التأويل، بعد أن أدلى «ديوك» السياسة بدلوهم وطمأنوا جمهورهم إلى ثبات خياراتهم وعنادهم، طغى على ما عداه من استحقاقات وأزمات ومشكلات اجتماعية ونقابية ومعيشية متراكمة ومزمنة، كما على الملف الأمني المتشعّب والمفتوح خطره على كلّ الاحتمالات في ظلّ هجمة إرهابية تكفيرية مستمرّة تستهدف لبنان في وحدته وتعايش أبنائه وكذلك المؤسسة العسكرية التي تتصدّى لهذه الهجمة دفاعاً على لبنان ومؤسساته وسلمه الأهلي.
وأخطأ السياسيون إذا اعتقدوا أنّ آمال اللبنانيين وطموحاتهم وأحلامهم معلّقة على ثبات «نواب الأمة» على مقاعدهم ولضرورات وطنية لا يمكن تجاهلها في هذه المحنة القاسية، أو انّ فك عروتهم الوثقى عن المؤسسة التشريعية يعني «الويل والثبور وعظائم الأمور» ستنهال على بلد الإشعاع والنور والحضارة وستجرفه عن مساره الديمقراطي التي لطالما تغنّى به المتسمّرون في مواقعهم وأبراجهم العالية المشيّدة بإحكام.
ولكننا نملك الجرأة ونعترف بأنّ السياسيين نجحوا في تيئيس الشعب اللبناني وإحباطه وقتل الأحلام التي في داخله، ولم تعد تعنيه الانتخابات النيابية والتمديد للمجلس النيابي من عدمه، ولا الأسماء القديمة الجديدة التي تزيّن قاعات المجلس النيابي وتشارك اللبنانيين بتقديم واجب العزاء وبـ «الطلاّت» البهية، والابتسامات العريضة المتفائلة دائماً بمستقبلها التي تتحفهم بها شاشات التلفزة يومياً بقوة القهر والفرض. فأولويات اللبنانيين انقلبت رأساً على عقب، ومتطلبات حياتهم الكريمة باتت أكثر إلحاحاً وضرورة، وهم يسابقون الزمن ويركضون خلف الوهم من أجل الحصول على فرصة عمل وقد تحوّل لبنان إلى صحراء قاحلة لا ماء فيها ولا كهرباء ولا خدمات ولا حياة على الإطلاق، بعد أن بالغ المسؤولون والسياسيون بحبّهم للبنان ومن «الحب ما قتل» ومن جعل «الحبّة قبّة» «وتكبير حجر» حرصهم الشديد على الشعب اللبناني، فعجزوا عن حمله وظلّ جاثماً على صدره حتى أثقلت عليه الأعباء والهموم والعتمة والعطش والفوضى، فبات عاجزاً عن الحراك والصراخ لأنهم أحكموا السيطرة عليه ودجّنوه وعلّبوه وخدروا تفكيره وكيّسوا طموحه بالطائفية والمذهبية. فرفع المواطن اللبناني أصابعه العشرة مستسلماً للأمر الواقع السياسي منفذاً بطواعية إملاءات وقرارات الزعماء والأمراء والقيادات التي تحكمت بكل صغيرة وكبيرة. ولم تعد الانتخابات النيابية من أولوياته واهتماماته لأنه بحكم التجربة والتكرار ستكون برأيه حكماً وحتماً صورة مستنسخة طبق الأصل عما سبقها إنْ لناحية ديمقراطيتها ونزاهتها أو لناحية الأسماء التي ستبقى «زيّ ما هيّي» وإنْ تبدّل اسم على هذه اللائحة أو تلك باسم آخر لأنه سيكون من ذات الطينة والعجينة ولا قرار له ولا استقلالية، تابعاً ومطيعاً لولي أمره السياسي والنيابي ولولي نعمته وعلّة تحقيق حلمه النيابي بعد طول صبر وانتظار. ولا نغالي بدعوة المعترضين على التمديد التراجع عن اعتراضهم بملء الإرادة والحرية الآن وقبل الغد، لأنّ التمديد واقع لا محالة والمعطيات كثيرة ولا ضرورة للمكابرة، لأنّ الانتخابات في مثل هذا السجال السياسي الفارغ لن تغيّر من حجم مأساة اللبنانيين ومعاناتهم على المستويات كافة. و«الذي نعرفه أفضل من الذي لا نعرفه». وفي التمديد للمجلس فوائد جمة تبدأ بتوفير أموال الخزينة وترييح اللبنانيين المتعصّبين لزعمائهم وطوائفهم ومذاهبهم من نزاعات وخلافات وصدامات الجميع بغنى عنها في مرحلة الشحن وإثارة الغرائز ونبش التاريخ وأحداثه لغايات مشبوهة لدى قوى سياسية وطائفية لطالما جنّحت نحو التوترات والصراعات.
ما تشهده الساحة اللبنانية من حراك هو بمثابة طواحين الهواء لا فائدة منها، ولن تضفي أية إيجابية على المشهد السياسي المرتبك والمهزوز، ولن تحلّ أزمة أو تعالج ملفاً ولن تغيّر في المعادلات والتوازنات القائمة، وبالتالي لن تساهم في ارتفاع شعبية أحد، لأنّ التلاوين اللبنانية أخذت مكانها واستحكاماتها السياسية والطائفية والمذهبية ولن تبدّل مضاربها أو تظهر بطولاتها الوهمية لأنّ مصيرها أصبح بحكم الواقع مرتبطاً بأولياء نِعَمهم.
إنْ حصلت الانتخابات النيابية أو وقع التمديد سيّان، لأنّ الأخطار والتحديات متربّصة بلبنان، الذي يعتبره بعضهم أنه الحلقة الأضعف في سلسلة الصراع القائم في المنطقة، والذي يبدو أنّ الآتي أعظم وأكثر خطورة وتهديداً لهذا البلد الذي أحوج ما يكون إلى التحصين والجدية في تعاطي قياداته وحكومته مع أزماته المتفاقمة، وفي وقف سياسة خداع الشعب وإطعامه «جوزاً فارغاً، وعدم التلهّي في حوارات إضاعة الوقت ومبادرات اللحظات الأخيرة لأنّ النتيجة من كلّ ذلك ستكون أصفاراً. وتعقّد الأزمات بدلاً من حلها.
إن لبنان الذي سقط في امتحان اختيار سياسة النأي بالنفس لأنه منذ تكوّنه كدولة وقبلها كان مصيره مرتبطاً بمصائر المنطقة ومصالح الدول، وهو الذي ولد من رحم هذا الرباط الذي جسّدته الاتفاقات والتفاهمات والمعاهدات السرية والعلنية للدول التي تحكّمت على مدى عقود ولا تزال بأوضاع المنطقة، وساهم الجنوح السياسي الداخلي وطلبات الحماية الدولية في تعميق هذا الارتباط الذي تحوّل إلى ارتهان سياسي ومالي وطائفي لوحدة لبنان وحريته واستقلاله وسلمه الأهلي.
لكن، ما هي العلاقة التي تربط المرتهنين والحكومات المتعاقبة والسياسيّين بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية والخدماتية والتنمية المستدامة المعدومة، وما هو الرابط بين تجويع الناس وتعطيشهم وحرمانهم من نعمة الاستشفاء والتربية والتعليم، هل القرار الدولي هو الذي يحرم اللبنانيين من الماء والكهرباء وخدمات ملحة أخرى؟ أم الأداء الحكومي والسياسي الخاطئ والمتفلّت من المسؤولية؟ أليست السياسة هي من أجل خدمة الشعب وتطوّر الأوطان؟ أم أنها لتحقيق المكتسبات وجمع الثروات ووضع اليد على كلّ شيء؟ أيّ قانون أو شرع أو رسالة سماوية تتيح حرمان الناس من حقوقهم المشروعة والمحافظة على كرامتهم؟ وهل المسموح إغراق لبنان بالعتمة لخلافات مهما كان نوعها وحجمها. وأخشى أن يكون هناك اتفاق بين مؤسسة الكهرباء وبعض المياومين لاستمرار الأزمة غير المسبوقة التي يعاني منها اللبنانيون وإلا لماذا «الستاتيكو» المستمر بين المياومين والمؤسسة ووزارة الطاقة بل والحكومة، فلا شيء يتغيّر ولا مبادرات ولا حلول. ما يحصل يثير الشك والريبة والأسف على بلد تتلاعب فيه قلة بوطن وشعب ومؤسسات.
أيها السياسيون أنزلوا بأنفسكم إلى الشارع واستمعوا إلى أنين الناس وصرخات الوجع والفقر الذي دخل بيوتهم المستورة، شاهدوا بعيونكم الحالة التي يرثى لها للبنانيين الذين صدقوا معكم في صولاتكم وجولاتكم وخياراتكم. لا تعتمدوا على رسلكم وعيونكم لأنهم لا ينقلون الحقيقة خوفاً على مواقعهم ومصالحهم.
أيها السياسيون دعوا شعبكم يعيش.